الرئيسية » أرشيف - فضاء واسع » النظام السعودي يحاصر التيار الحقوقي

النظام السعودي يحاصر التيار الحقوقي

اختار النظام السعودي ساحة المعركة وحدد موعدها وحسم نتيجتها عندما تصدى لتيار حقوقي جديد برزت وجوهه خلال السنوات الماضية فكانت الساحة بين جدران المحاكم حيث التهم تتكاثر وتتشعب وتصدر الاحكام المتوقعة فيدخل المتهم السجن على أمل ان تنتهي المصادمة وتخمد الاصوات الحقوقية دون أي ضجة او ردود فعل.

كان المحامي وليد ابو الخير آخر المتهمين حيث صدر حكم بسجنه لمدة ثلاثة اشهر على خلفية نشاطه في مجال حقوق الانسان وتأسيسه للجنة حقوقية غير مصرحة ومشاركته في انشاء حلقة تواصل وحوار ايضا غير مصرحة. وربما يعتبر نشاط أبو الخير امتدادا لنشاط جمعية حسم الحقوقية والتي اغلقت السعودية مواقعها الالكترونية وسجنت اعضاءها لمدة تتراوح بين 10 ـ 15 سنوات. لم يكن النظام السعودي مهيئا او متقبلا لاي منظومة حقوقية جديدة او مؤسسة مجتمع مدني مستقلة تتبنى خطاب الدفاع عن الحقوق المدنية والسياسية او بيانات سلمية تعرف المجتمع بقضية المساجين السياسيين واصحاب الرأي، وظنت ان المحاكمات الطويلة والاعتقالات الدورية ستكون الحل للقضاء على هذا النشاط الجديد الذي لم تعرفه السعودية في الماضي، ولم تتعود على خطابه وحراكه.

واعتبرت السعودية كل معركة مع هذا التيار الجديد نصرا لشرعية النظام وقوة القضاء فأدخلت رموز هذا التيار الى السجن بعد ان اصدرت لوائح طويلة تتهمهم بتهم متبعثرة كالتطاول على النظام والقضاء ذاته والتحريض على ولاة الامر والاتصال بوسائل الاعلام العالمية واقتناء المنشورات الممنوعة وتعطيل التنمية والتحريض على الاعتصامات الى ما هنالك من سلسلة طويلة لا تعتبر جريمة الا في الانظمة الشمولية التي تقفل أبواب الحراك الحقوقي مهما كان سلميا. وبسجن رموز هذا التيار اعتقد البعض ان القضية انتهت وأقفل الملف الى اجل غير مسمى او الى ان تفتح المحكمة ابوابها لتستقبل مجموعة جديدة من هؤلاء الحقوقيين وبذلك يتم خنق هذا التيار ومحاصرته حتى لا ينمو ولا ينتشر خطابه فيصبح لغة جديدة يتبناها طيف كبير من المجتمع. والمشكلة التي يواجهها النظام السعودي ليس فقط وجود مثل هؤلاء الناشطين بل في الخطاب الحقوقي ذاته والفكر الذي يرتكز عليه.

فالسجن أمر طبيعي ونهاية قد تكون حتمية لكل من يحاول خلق مساحة حقوقية في بلد تعتبر فيه الحقوق هبة من السلطة لكن يفوت على النظام فكرة كون هذا الخطاب هو لغة العصر الجديدة والذي ساعدت العولمة بكافة اشكالها ووسائلها في انتشاره ليصبح لغة المقاومة للظلم والقرارات والاحكام التعسفية فالخطاب الحقوقي المعولم وصل الى شرائح اجتماعية لا تقتصر على المثقفين والناشطين بل تجاوزته الى شرائح شبابية تناقشه وتتواصل معه مستعينة بآليات الاتصال والتواصل الاجتماعي فانتشر بسرعة فائقة تجاوزت قدرة الانظمة على محاصرته او اعلان الحرب الوهمية عليه.

وما ان يصدر حكم بالسجن على الناشطين او العاملين في المجال الحقوقي نجد ان شريحة كبيرة تتداول الخبر وتناقشه وتقوم باعادة نشره وتداوله في محاولة لايصاله الى اكبر شريحة محلية وعالمية. وتتحول عملية تداول الخبر الى محاولة لترسيخ تفاصيله في الوعي الجمعي للمجتمع دون ان تستطيع السلطة ان تواجهه فالوعي بالقضايا الحقوقية ليس من السهل محوه من المخيلة او ازالته كليا من ضمير الفرد والمجتمع ومع كل حكم بالسجن جديد نجد ان كرة الثلج تكبر وتتدحرج بسرعة فتجرف الوعي القديم وتستبدله بآخر جديد يرفض الاحكام التعسفية بل يرفض التهم الموجهة الى المتهمين مهما كان نشاطهم محدودا او هامشيا. ويبدو ان النظام السعودي وقع في مغبة المحاكم معتقدا انها الساحة الحديثة للقضاء على التيار الحقوقي لكن النتيجة لن تكون في صالحه حيث مع كل محاكمة جديدة تكبر كرة الثلج وتتضخم ويصل صداها الى ابعاد تتجاوز جدران المحاكم فتسافر لحظات المحاكمات الى حدود ابعد بكثير من القضية المطروحة. وقد وصلت نتيجتها الى الامم المتحدة حيث ادانت لجان حقوق الانسان الوضع السعودي والذي اتهم بعدم مجاراته للمعايير العالمية واستمرار انتهاكاته للحقوق وجاء الدفاع السعودي مبهما مرتبكا بعد ان وضعت على طاولة النقاش الادلة والتقارير التي أعدتها منظمات حقوقية عالمية وعربية وجدت مادة دسمة في المحاكمات السعودية خلال الاعوام السابقة وفشلت السعودية في الدفاع عن نفسها كنظام لا تزال حقوق الانسان وحرية الرأي والمساواة بين الجنسين متخلفة عن كثير من الدول.

ولا يزال النظام السعودي مرتبطا بسلسلة طويلة من الانتهاكات التي لم تبدد وقعها المحاولات البائسة للدفاع عن سياسة النظام في مجال الاعتقالات التعسفية ومحاصرة حقوقيين ناشئين اصبحوا رموزا عالمية نتيجة رصد نشاطهم من قبل المراقبين العالمين وجهدهم في ايصال تفاصيل المحاكمات الى اكبر شريحة محلية وعالمية. وربما يعول النظام السعودي على اكثرية قد تكون وهمية لم تتعاطف مع الخطاب الحقوقي خاصة فيما يتعلق بالمعتقلين السياسيين او المعتقلين على خلفية الرأي والموقف لكن لن يدوم هذا التعويل لفترة طويلة لان انتشار الخطاب الحقوقي العصري لن توقفه التهديدات بالسجن او الاعتقال غير المبرر تماما كما هو الحال الآن حيث كلما سجنت السعودية ناشطا ظهر آخر يمشي على نفس الطريق ومع الزمن سيتكاثر هؤلاء ويزداد عددهم فيفقد النظام السيطرة على المحاولات والتي ان بدت فردية غير منظمة الا انها سرعان ما ستتحول الى كتلة منظمة لها ثقل فكري وبعد اجتماعي نتيجة التواصل المكثف عبر وسائل الاتصال المعولمة وان اكتفت هذه الشريحة اليوم باثبات وجودها على هذه الوسائل الا انها قد تدخل مرحلة جديدة من التنظيم على ارض الواقع وبعدها سيواجه النظام معركة كبيرة لن تكون نتائجها دوما في مصلحته حيث هو اليوم يواجه تآكل سمعته المحلية والعالمية كنظام لا يزال يمارس اشد انواع التقييد على الحريات وانتهاك الحقوق خاصة الانسانية والسياسية والمدنية.

والافضل للنظام ان يوفر مساحات حرية يمارس فيها الناشطون حراكا حقوقيا سلميا من ان ينخرط البعض في متاهات غامضة تصعب السيطرة عليها في المستقبل فكل المؤشرات تدل على ان الخطاب الحقوقي هو دوما صمام الامان لمجتمع في مرحلة مخاض عسير نتيجة عقود من التهميش والاقصاء والتعدي على حرياته الفردية وحقوقه الجماعية. وان كان هذا المجتمع حتى هذه اللحظة لم يفرز تنظيمات كبيرة تحت ضغط ممانعة النظام لفتح باب السياسة الوطنية الا ان حالة التأزم والاحتقان والتململ من السلطة المطلقة واضحة ومتبلورة تعبر عن نفسها بين الحين والحين في اصدار سلسلة من المطالب المتفرقة والمبعثرة وآراء متفرقة كلها تحاول إيصال مطالبها للسلطة من حملات المطالبة بزيادة الرواتب مرورا بحملات رفع الحظر عن قيادة المرأة للسيارة كان آخرها في 26 اكتوبر. وكلما وصلت هذه الحملات الى طريق مسدود سيعيد الكثيرون النظر في آليات الحراك الحالية التي قد تؤدي الى تصعيد الضغط وتغيير اساليب المطالبة بالحقوق. وقد تكون محاصرة التيار الحقوقي عند هذه اللحظة غير قادرة على استيعاب سلسلة المطالب الملحة وتواجه السلطة السياسية وضعا قد يكون من الصعب احتواؤه والقضاء عليه سلميا خاصة في مرحلة لم يعد فيها النظام السعودي محصنا من النقد الخارجي والذي نراه يصعد انتقاداته للداخل السعودي وقد يأتي اليوم الذي يجد النظام السعودي نفسه محاصرا عالميا بسبب استمرار انتهاكاته لحقوق الانسان وقد تبدو هذه الانتقادات الآن وكأنها مجرد فقاعات اعلامية خارجية قد يستطيع النظام تجاوزها واخماد اصواتها معتمدا على مزاعم محوريته الاقتصادية والاستراتيجية على الساحات الاقليمية والعالمية الا انه في الامد البعيد قد لا يكون قادرا على تجاوز النقد الخارجي والضغط العالمي خاصة وان ملامح التحالفات العالمية تمر هذه اللحظة في مرحلة اعادة صياغتها بشكل لم تتضح صورته الكاملة بعد. لكن رغم القوة الاقتصادية السعودية والثقل الاستراتيجي الحالي سيجد النظام السعودي نفسه في مواجهة مستقبلية ربما هي غير متوقعة اذ ان تآكل سمعته خاصة على صعيد حقوق الانسان بدأت بالفعل تأخذ ابعادا مهمة في الجدل العالمي. وان كان للنظام السعودي فرصة تاريخية فموعدها اليوم حيث عليه ان يحل ملف المساجين السياسيين واصحاب الرأي بشكل نهائي وسريع ويسمح لمنظمات حقوقية مستقلة ان تبدأ تشكيل نفسها بطريقة قانونية تجنبها الاعتقال التعسفي والمحاصرة والتي اثبتت عدم جدواها في القضاء على الخطاب الحقوقي المعولم والذي وصل الى السعودية بعد انتظار طويل. فتخلف النظام السعودي في الانفتاح على هذا الخطاب ومحاولة خنقه لن تجدي في عصر تغيرت فيه ملامح التغيير الاجتماعي الذي يعزز كل يوم شريحة جديدة تتعامل مع لغته وتحاول تبني آليات الحراك السلمي في سبيل تحقيقه. ويبقى الخطاب الحقوقي صمام الامان لامن المجتمع وسلمه لن يندثر تحت ضغط السجن او التهميش وتبدو المعركة ضده معركة خاسرة لن تزيده الا قوة وصمودا.

د. مضاوي الرشيد

‘ كاتبة واكاديمية من الجزيرة العربية

قد يعجبك أيضاً

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.