الرئيسية » تحرر الكلام » أفراح مايو الأغر

أفراح مايو الأغر

أفراح مايـو الأغـر

ليس هذا خروجا على الإجماع الشعبي السوداني وتحديا لإرادته , حاشا , فأنا شاعره الذي غنى به ولـه , وهل كان مايو أغرَ في يوم من الأيام وهو الذي حول السودان سجنا مشاعا ودولة أمن وعسكر وقتل من قتل من الرجال وبالآلاف منهم من دفنوا في مقابر جماعية في الجزيرة أبا وهدم المسجد الجامع علي جثث الآلاف بحي ود نوباوي المعروف شمال أمدرمان وقتل الضباط الأحرار الشباب الأقوياء وشرد العلماء وانتهى بقتله مفكرا إسلاميا سودانيا معروفا , فأي مايو الأغر هذا الذي أذكره وأحتفل به ما حييت ؟
حكم نظام مايو بانقلاب عسكري آثم السودان منذ الخامس والعشرين من مايو 1969م وحتى السادس من أبريل 1985 , كمم فيها الأفواه وقتل كل ما هو جميل في حياة السودانيين من قيم وأخلاقيات وانضباط إداري ووظيفي كان مضرب المثل لكل العالم , أذل كبراءنا ورفع صغارنا ورجرجتنا ودهماءنا , وجمع حوله المطبلين والأقلام المأجورة لتجعل منه الخلاص والأغر واحتفاءً للقصاص ! وعجبي !!! وزور مايو كل شيء حتى وصف مقاومة السودانيين الشرفاء عام 1976 بغزو المرتزقة الجائر للسودان , سجن من سجن وحاكم من حاكم وقتل من قتل وما زال رأس النظام موجودا بقلب الخرطوم يتمتع بحياة كريمة رغم أن العالم يطالب بمحاكمة بنوشيه من أمريكا الجنوبية لقتله حفنة أفراد خلال فترة حكمه وما زالت أمريكا والمغرضون السياسيون العراقيون والدول التي تؤازر محور الشر الأمريكي البوشي وصقوره تضخم وتشنع بأسير كسير كصدام حسين وتطالب بمحاكمته بتهمة المقابر الجماعية , بينما هم يعلمون تماما أسباب تلك المقابر الجماعية التي يبرأ منها أو من كثير منها الأسير الكسير ويتورط فيها غيره وعلي رأسهم من غضوا الطرف عنها منذ سنوات طويلة ماضية , مثلما غضوا الطرف عن إبادة مايو لعشرات الآلاف من السودانيين لأنه كان حليفا مخلصا لماما أمريكا , ولكن ربك يمهل ولا يهمل , قتل النميري إمام الأنصار السيد الهادي المهدي ولم يتورع من الإساءة إليه حتى بعد قتله , في خطاب له عبر الإذاعة واصفا لـه بأنه جبان يدعي القيادة , وقـتل الأستاذ العالم المفكـر السوداني محمود محمد طه بأسباب مختلقة تخـيّر لها من قضاة السلطة حيـنها من ينفـذون ما يريـد , تماما مثلما حدث للحجاج حينما قتل آخر من قتل من العلماء الصالحين سعيد بن جبير الذي دعا على الحجاج ألا يمكنه الله من قتل أحد بعده , وكان , فقد مات الحجاج بعدهى بزمن وجيز , كان عمر الرجل العجوز ستا وسبعين سنة عندما أعدم في 19/1/1985 , فلم يدم حكم النميري بعد ذلك أكثر من ستة وسبعين يوما فقط حيث رمى به التاريخ في مزبلته, ولعل في ذلك برهانا ربانيا علي أخذ الظالمين , أقول ذلك لا دفاعـا عن المرحـوم الأستاذ محمود محمد طه ولا إلماما محيطا بآرائه وتفكيره , فلم أكن أقرأ لـه كتبه ولم أهتــم بها يوما من الأيام , ولكن الحجر على الفكر بهذه الطريقة مرفوض ومن يستطيع أن يجزم بتكفير هذا أو ذاك ؟ وإن كنت على ثقة من أن المحاكمة التي جرت لـه كانت سياسية ظالمة لموقفٍ ظالم لرجل مظلوم أراد النظام التخلص منه بحجة ارتداده بما كان يتبنى من أفكار وتكفيره , ولعل صدق حديثي يرتكز علي أن محكمة من قضاة الاستئناف المحترفين المحايدين نظروا في الدعوى التي رفعتها أسرته عقـب انتفاضة أبريل للمطالـبة بإعادة النظر في القضية والحكم عليه ميتا , ردا لاعتباره , فأصدرت المحكمة حكمها ببراءة المـرحوم .
إذن لـم تكن هناك ثمـة أفـراح لمايـو ولا حقبته , ولم يكن مايو أغـر أبـدا , وإنما هـي ( أفراح ) سخرية من شعبنا تجاه الوضع لها مبرراتها كما سنذكـر لاحقا , أما أن يكون مايو الأغر على قلم رجل مثلي لم يصفق قط لمايو ولم يؤازره في يوم من الأيام ولم يهتف باسم نميري إلا مرة واحدة لا حبا فيه وإنما نكاية في الشيوعيين المنقلبين عليه عام 1971 , بل وهجا الوضع هجاء مرّا داخل نفسه وبكل أشكال شعره , وكيف يؤيد وضعا قام علي أكتاف الشيوعيين وكان هتافهم في أول يوم للانقلاب المشئوم ( جعفر جعفر يا إسماعيل ) وسبحان الله يستبدلون الذي هو خير بالذي هو أدنى , بل أين هذا من ذاك الرجل المناضل النظيف الديمقراطي السلوك والمظهر والجوهر والحكم , إسماعيل مؤتمر الخرطوم عاصمة الصمـود إثـر النكـسة , زميل عبد الناصر الكرامة والشموخ وزميل فيصل العرب الحكيم الشجاع الشهيد , وإذا كان يؤخذ على إسماعيل الأزهري من شيء فهو إيمانه المطلق بالديمقراطية وكفالة حق التصرف والتعبير الحر لكل مواطن يؤيده أو يعارضه . كان لي الأب والرمز والمثال والقدوة , فلا يمكن أن أوافق من يعارضه أو يسيء إليه من قريب أو بعيد , ولقد هجرت السياسة والسياسيين بعد موته وما عاد للسياسة وزن في نفسي ولا حياتي . وتقلب النميري مع الشيوعيين حينا ومع القوميين حينا , حتي أصبح إسلاميا وقيل إنه ألف كتاباً أسماه : النهج الإسلامي لماذا ! ثم انقلب على الإسلاميين ووضع قياداتهم بالسجون حتى ذهب إلى غير رجعة منفيا في الأرض لعشر سنوات .
ورغم ذلك يبقى مايو الأغر خالدا في نفسي , أحتفي به كل عام , فقد ولد ابني الأكبر الدكتور إبراهيم صباح الخامس والعشرين من مايو الأغر 1973. تاريخ ميلاد أسأل الله أن تدوم ذكراه طويلا طويلا وتعود كثيرا كثيرا .
بدأ الانهيار الاقتصادي والتضخم والفقر والتخطيط العشوائي بوصول مايو إلى الحكم , وبـدأ شح الموارد وأساسيات الحياة وبدأ تدهـور الخدمات وتدني مسـتوى الحيـاة , والانقطاع المتواصل للكهرباء وماء الشرب عن الأحياء السكنية في بلاد نهـر النيل والنيلين الأبيض والأزرق , حتي أضطر إلى أن يتولى بنفسه وزارة الكهرباء أو الوزارة التي تُعنى بها ولا أدري ما اسمها , فقد كانت تُغيّر مسميات الوزارات وتنشأ وزارات جديدة وتدمج أخرى بين حين وآخر ليشغلوا الجماهير بتغييرات لا تضر ولا تنفع ولا تغيّر من واقعهم شيئا , ولعله اعتقد أن الثورة المضادة وراء انقطاع التيار الكهربائي وهو الساحر حلال المشاكل , كان الفرد المطلق بلا أدنى منازع , يكسو العريان ويطبب المريض ويشفيه ويسقي العطشان …كما يكتب شعرا المنافقون والعياذ بالله , وبتوليه مرفق الكهرباء , انقطعت الكهرباء لأكثر من أسبوع دفعة واحدة , حتى قال شعبنا ( اللي يمسـك الكهـرباء تقتله , ولكن نميري مسك الكهرباء فقتلها ) !
وجثم مايو علي صدرنا كثور في مستودع خزف ,خلق لنا وضعا صعبا , ومن ضمن معاناتنا كانت المواد البترولية وعلى رأسها البنزين , وقود سياراتنا , كانت شحيحة جدا ولا يملك السودان رغم إمكاناته الضخمة من توفير العملة الصعبة لشراء البترول ومشتقاته , كانت محطات الخدمة خالية تماما من أي بترول , وصفوف السيارات بالآلاف في صفـوف متراصـة طويلة جدا نمكث فيها أياما بليلاتها , فربما وصلت شاحنة بنزين ( تانكر ) إلي محطة خدمة مرة واحدة أسبوعيا , ونذهب إلى المجالس البلدية وندفع رسوما لأخذ دفاتر عن حصص محددة بأربعة جالونات بنزين أو ثلاثة أو اثنين عن الأسبوع بكامله , وما نلبث أن نسمع بأن الحصة ونظام الدفتر الذي يحوي عددا من التذاكر عن حصة الأسبوع قد غُير بدفتر آخر وعلينا الذهاب ثانية لدفع رسوم وشراء تذاكر أخرى , وكلما حصلنا علي حصتنا من البترول نقطع التذكرة ونسلمها لعامل محطة خدمة البترول لتكون ورقة ثبوتية يقدمها لمن يأتون للتأكد تفتيشا عن انضباط محطات خدمة البترول , هـذا بجانب رجال الأمـن الاقتصادي الـذين يحضرون تـوزيع البترول من البـدايـة حتي النهايـة وحتى يفرغ مخزون بترول محطة الخدمة تماما .
وكنا كلما حصلنا على حصتنا من البنزين أسبوعيا , نخرج من محطة الخدمة فرحين جدا ومبسوطين , ونرفل بسياراتنا على الطريق أو الشوارع ذات الحفر الكبيرة , في حرص وبخل ولا نفعل ذلك إلا لضرورة لا إشباعا لرغبة النفس في الفسحة والتجول , ومن هنا فقد سخر شعبنا وأطلق علي حصول الأفراد لحصصهم المحدودة جدا من البترول أسبوعيا بأفراح مايو ! كنا فعلا نفرح , فالكثيرون لا يرافقهم الحظ لينالوا حصصهم الأسبوعية في هذه المحطة ويذهبون ليعسكروا مرة أخرى لأيام في محطة أخرى وربما لا يحصلون أيضا على نصيب من المحطة الأخرى وربما لا يجدون بترولا لشهر كامل , وهكذا كان الحال بالنسبة للخبز والسكر , وكلما حصلنا على شيء منها فرحنا وعشنا أفراح مايو , وتكون أفراحنا أكبر وأكثر إذا تيسر حصولنا أكثر على حصتنا من البترول , كانت تلمسنا الفرحة حتى ولو بعد معاناة أيام ! إنها إذن أفراح خلقتها مايو بظروف بائسة ومضنية , تطل من خلالها الفرحة , تطل الفرحة علي الرغم منا ! وبالمناسبة استمر الحال كذلك حتى بعد ذهاب حكم النميري لما ورثته الأحزاب الحاكمة من إرث مثقل بالديون الخارجية وخزينة داخلية مفلسة .
ونحن في صفوف البترول كانت تحدث قصص ونوادر ومواقف صعبة ومآكل , وذلك ما أكتب عنه اليوم .
كنا في صفوف طويلة بإحدى محطات مدينة الثورة شمال أمدرمان قرب مقابر الشيخ أحمد شرفي , وكان أمام سيارتي مطرب سوداني معروف بسيارته المارسيدس , استأذن مني للخروج لقضاء أمر له يبدو أنه كان ملحا ثم يعود إلى حيث كان , كنت في آخر الصف وعندما عاد المطرب المغني كان قد اصطف خلفي مئات السيارات , جاء الرجل فأفسحت لـه المجال ليكون ضمن الصف , ثار وهاج وماج من كانوا خلفي وتحمس البعض ووصلني يلومني ويوبخني ويتهمني بمحاباة الرجل ويصف الحالة ملصقا بها المحسوبية , لم تكن تربطني علاقة خاصة أو معرفة شخصية بالمطرب ولـم أجامله حقيقة , أردت أن أشرح ذلك للجماهير الغاضبة الثائرة فلم أُصدق , وآثرت السلامة والسكوت حتي لا يتحمس أحدهم أكثر من اللازم وربما يصفعني أو يضربني ضربة لا أستفيق بعدها .
وعلمت أن أحد أقاربي كان يقود حافلة وهو شاعر رقيق , ووجد محطة خدمة تصب بترولا للسيارات , فكر في حيلة وقدّر , طلب من الكمساري أو محصل النقود من الركاب أن يرقد ويتمدد وغطاه بثوب أبيض , ثم ذهب إلي المحطة وأخبرهم بأنه يحمل ميتا وليس عندهم بترول ويريد أن تصل الجنازة إلى ضاحية من ضواحي الخرطوم في أسرع فرصة , صدقه شعبنا الطيب وأفسحوا لـه المجال ليصل إلى البترول بسهولة ويسر ويأخذ ضعف الحصة المقررة من البترول فالأفضلية للميت وسـتر الجنازة واجب , وقاد الحافلة يملأه الزهـو والسرور والفرح ونهض الكمساري حيا من جديد ضاحكا من الموقف الذي مرّ ببساطة علي الصفوف المتراصة , لا ضاحكا من تزاحم الأضداد بلحد ضيق كما يقول صديق عمري أبو العلاء المعري .
وكانت أحـيانا عـلي ما يبدو تعـقد صفقات بين عامل المحطة ورجل الأمـن الذي يراقبه , يغض رجل الأمن الطرف عن المخالفات التي يقوم بها عامل المحطة مقابل مبلغ نقدي من المشتري لا يزيد عن الجنيه أو نصف أو ربع الجنيه , ليزيد المشتري جالونا أو جالونين وربما يضاعف لـه الحصة أو يتغاضى عن طلب كوبون الحصة ليستفيد به المشتري في محطة خدمة أخرى , وفي النهاية يتقاسم المجرمان المبلغ المتحصل عليه من الرشاوى , ومصائب قوم عند قوم فوائد !
ولما كانت القصة لا تزيد عن ذكريات ومعايشات يومية , أذكر أني أضطررت للعودة ظهرا لمنزلي منهكا من طابور البترول وبعد ذهابي إلى أحد المخابز لأخذ مائة رغيف تجهز لي يوميا بوساطة أحد تلاميذي الذي يملك والده المخبز , فقد كنت لا أجد أن أشتري خبزا لشهر كامل ربما وأعيش علي ما يجود به علي من حولي من المقربين من الأهل , وردا لجميلهم لما وجدت وسيلة للحصول على الخبز بيسر ودون وقوف في صف أو انتظار وإنما يأتيني الخبز جاهزا يحمله أحد العمال من الباب الخلفي للمخبز إلى سيارتي مباشرة , فقد بدأت اشتري لهم حصتهم مع حصتي لأريحهم من القيام فجرا والذهاب لصفوف المخابز , وبمجرد وصولي المنزل أخبرني ابني الوحيد يومها وكان صغيرا أن زوج خالته مريض بالمستشفى , كنا نسكن سويا في منزل واحد عدة سنوات , ولم يكن أمامي بد من ألا أدخل المنزل وأن أتوجه فورا للمستشفى , كان يشكو من ربو حاد شفاه الله وعافاه منه , وجدت حالته متأخرة , أسرعت بسيارتي وأحضرت أحد الأطباء من معارفي للإشراف علي علاجه والعناية به , لم يكن يظهر تحسنا يذكر وإنما العكس صحيح , اقترحت أخذه إلى مستشفي الخرطوم التعليمي حيث كان يعمل قبل التقاعد الاختياري به وله زملاء ومعارف ربما أفادوا , وفي الطريق كانت زوجته تبكي بحرقة , وذهبت عدة سيارات تحمل الأهل والأقارب , الحالة خطيرة , في الطريق علـمت من الأخ الذي كان يحمـل المريض أن حالته تتأخر بسرعة , قررنا في الطريق بدلا من الذهاب إلي الخرطوم النزول به بمستشفي أمدرمان , حملته رغم نحافة جسدي وكان ثقيل وزن علي وأخذته من السيارة إلى الطابق الأول حيث الحجرة المفـترض أن يرقـد بها , تعبت جدا , وتشاورت مع أخ لنا آخر ( عديل ) مات فجأة في أبريل الماضي بذبحة قلبية , أن نذهب سويا لاختصاصي عيون كبير ويعمل مديرا لمستشفي النهر التخصصي للعيون والمشهور على مستوي لا بأس به عالميا , وذلك الاختصاصي ابن عم شقيق للمريض لنقترح عليه أن يحضر لنا اختصاصيا كبيرا ممن يستقبلون عشرة مرضى كل مساء مقابل عشرة جنيهات عن كل مريض , مبديا استعدادي لأن أدفع لـه من حر مالي مبلغ المائة جنيه كاملة مقابل تركه زبائنه المرضى وعلاج مريضنا , وخرجنا من مستشفى أمدرمان لتنفيذ المقترح ولكني فوجئت بلافتة كبيرة مقابل المستشفي تحمل اسم ابن أختي اختصاصي أمراض النساء والولادة , وعيادته مازالت في نفس المكان وإن تغير مسـماه من اختصاصي إلي كــبير استشاري أمراض النساء والولادة , دخلنا فورا إلي العيادة وطلبت من سكرتيرته أن أقابله فلم تستجب على الفور , لم أتردد وذهبت إلي حجرة الطبيب فأراد منعي عامل يقف قريبا من بابه , أذكر أني انتهرته وأمسكت بقفل الباب لأفتحه وأقول له : هذا هو الطبيب وعليه أن يقرر استقبالي من عدمه , سمعني الطبيب في الداخل فقال : أهلا يا خال , ما الأمر ؟ أخبرته بأن أخانا فلان على سرير الموت وعليه أن يفعل شيئا , إما أن يأتي لنا بطبيب اختصاصي ـ وذكرت لـه اسمين شهيرين هما الدكتور النور عبد المجيد أو الدكتور السر عبد الماجد ـ وأبديت استعدادي لدفع حصيلتهم المالية عن ذلك المساء , كنت متحمسا متألما , أجابني بأن الموضوع يتصل بأخلاقيات المهنة والالتزام تجاه مرضاهم والمال ليس بذي موضوع , وأضاف أنه سيذهب بنفسه للوقوف على الحالة , استأذن مرضاه من النساء طبعا لدقائق وخرج معي مهرولا للمستشفي , وسبحان الله فقد وجدنا المريض المحتضر الساجد للموت قد جلس متربعا على سريره في غير وعي يهذي , أسر إلي الطبيب بأن الحالة إما التهاب سحايا شتوي أو ملاريا , أجري كشفا مبدئيا بصعوبة على المريض العنيف الهاذي فقرر أن التوقع الأول غير محتمل , طلب قطعة زجاج وأخذ عينة من الدم لفحص الملاريا بمختبر عيادته , وكانت النتيجة أن الملاريا فاعلة إيجابية , كتب لي الوصفة الطبية العاجلة للطبيب العمومي المناوب لتنفيذها فورا قبل أن تصل الملاريا إلي المخ فتكون الفائدة من العلاج بنسبة الصفر , وأمسكنا بالمريض وأخذت السقاية وبها الدواء تسري في جسده , هدأ ثم نام . يبدو أن المعالجة للربو وتهيج الربو نفسه أضعف جسد الرجل ومقاومته فظهرت أعراض الملاريا , ومن ذلك اليوم بدأ الأطباء يجنحون إلى الكشف عن الملاريا منذ البدايات المبكرة مهما كانت الحالة المرضية مستفيدين من ذلك الموقف . الطريف في الأمر أن من بين المرافقين للمريض من الأهل لحضور وفاته , حاجتان طاعنتان في السن , تنام إحداهن فتعلق عليها الأخرى : أهي جاءت هنا لتنام ؟ ثم تنقلب الآية تصحو الأولي وتنام الثانية ويتكرر التعليق من الأولى على الثانية النائمة , ونام المريض أيضا نوما عميقا , صحا من النوم حوالي الساعة الواحدة صباحا وسأل عن مكان تواجده فأخبرناه بمعاناته وما حصل وأن الدكتور فلان حضر واكتشف مرضه ثم عاده ثانية بعد العيادة في الحادية عشرة مساء واطمأن عليه وذهب . في الصباح الباكر قامت الحاجتان لصلاة الصبح وسألت إحداهن : محمد صالح بقي كيف ؟ أجبنا أنه أصبح بخير منذ منتصف الليل وهو الآن بخير تماما وزالت الخطورة , وبدون أن تشعر وبتلقائية قالت: يا خسارة تعبنا ونومنا بدون فائدة ! وكأنها كانت تريد لـه الموت بينما الأمر غير ذلك , كانت تعتقد أنه ميت لا محالة ولذلك قررت وزميلتها النوم بالمستشفي , ولكنه لم يمت وخانها التعبير الذي أصبح حكاية وسالفة تروى حينا إثر حين ربما للتسلية والضحك , تأريخ ما أهمله التاريخ وتخطاه . رحم الله الحاجتين .
والحديث يدور عن السيارات ومعاناتها وبترولها وخدماتها ونجدتها , ولكن لها مواقف تجعل الولدان شيبا !
كنت أقود سيارتي الفلكسواجن الألمانية التي صممت على شكل قبعة هتلر , كنت مسرعا علي شارع الزعيم الأزهري وعبرت جسر نهر النيل متجها من أمدرمان إلى الخرطوم بحري في طريقي إلي وزارة التربية والتعليم بالخرطوم , وبقيت على مقربة من دوار ( الملتقى ) المزدحم جدا بالسيارات والشاحنات والمارة إذ يربط بين شارعين هامين , الزعيم الأزهري وشارع المعونة , فأردت أن أخفف السرعة لأتوقف عند الدوار خلف السيارة التي أمامي لنفسح المجال للسيارات القادمة من اليسار حسب قوانين الحركة , وإذا بدواس الفرامل ينكسر ويقع تحت قدمي على أرضية السيارة , كانت تجربة مريرة , كيف يتسنى لي أن أُوقف السيارة , لم تكن هناك وسيلة , بدأت استعمل الهـورن أو آلـة التنبيه وعجلة القيادة وأدور كالثعبان في شكل خط سـير متعـرج ( زقزاقي ) , وأصـيح لهذا أو ذاك أن يبتعد عن طريقي , استطعــت بصعوبة أن أدور يمـينا من الدوار وأدخل شـارع المعـونــة ثم أعـرج يمينا خارجا من شارع الــقـار ( الأسفلت ) , أوقفت دوران المحرك بعد أن جعلت عصا الجير بوكس علي الرقم الأول لتخفيض السرعة إلي أدنى مستوي لها , بدأت السيارة تتدحرج ببطء وفي مواجهة شاحنة كانت تفرغ حمولة طوب محروق أو طوب أحمر كما يقولون ,تأكدت أن لا محالة من الاصطدام بتلك الشاحنة ولكن إرادة الله شاءت أن تمر سيارتي بمنخفض من الأرض غير عميق وتتوقف تماما , تنفست الصعداء وحمدت الله , نزلت من السيارة وجسدي كله يرتجف , تدبرت الأمر ووجدت ضمن ما أحمل بعض أدوات النجدة بسيارتي , حابسة يمكن استخدامها لإعادة مشغل الكابح إلى مكانه والإبقاء عليه على الأقل لحين وصولي إلي الجراج , أصابتني حمى في جسدي أحسست بها , ووصلت الجراج وأنا أقود السيارة بحذر شديد وحرص بالغ وخوف لا حدود لـه , وأذهلني أن الميكانيكي أخطرني بأن الحابس الذي استخدمته مصنوع خصيصا لهذا الغرض وهو أصلي الصنع ولا داعي لإعادة السلك اللولبي SPRING))الذي كان يمسك الكابح وانكسر من طرفه القابض .
ذلك يذكرني بموقف آخر مماثل , كنت مسرعا بسيارة يابانية لم تكن جديدة , فقد اشتريتها مستعملة , وأنا أتخطي إحـدي السيارات علق على سرعـتي ركاب تلك السيارة , يبدو أنهم لم يصلوا على الرسول وهم يبدون إعجابهم بسرعتها , أصابت عين أحدهم والله أعلم الســـــيارة , ولا غـــرابة في ذلك وحتى الإنجلـيز يعتقدون في ذلك بدليل (an evil eye) , المهم وجدت مصاص الصدمات الأمامي الأيمن والذي يرتبط به العجل الأيمن الأمامي (shock absorber) ويُربط بجسد السيارة بصحن بلاستيكي قوي , كل ذلك خارج صندوق السيار , حاولت استخدام الكوابح فلم أجد أنها تعمل وانقع خرطوش زيت الفرامل إلى جزأين ولامست السيارة من الأمام الأرض وكنت على قمة صعدة غير مرتفعة كثيرا عن مستوى الأرض , ملأني الخوف ووصلتني السيارة التي تخطيتها وأخذتني إلى المدينة وتركت سيارتي ريثما يصل الميكانيكي ويشتري قطع الغيار الضرورية, وفي صباح اليوم التالي أخبر أحد زملاء ابني بالمدرسة , ممن علقوا على سرعة سيارتي , بأنهم ربما سحروا سيارة أبيه !
المهم الآن أصبحت تلك السيارة في ذمة الله بعد أن صدمها شاب لا يعرف القيادة ناهيك عن حذقها وكاد يقتلني وأنا أقودها , واضطررت مكرها لإرسالها لمزبلة البلدية لتحرق ضمن ما تحرق من مخلفات , ولسان حالي يقول :
خلقت ألوفا لو رجعت إلي الصبا لفارقت شيبي موجع القلب باكيا
كلام شعراء , فلعمري لو رجع إلي الصبا لاستقبلته بالأحضان فرحا أهديه أجمل شعري , فلا فرح ولا غبطة بالشيب , هو حزن ونذير موت وقِدم لا أكثر ولا أقل , ويبدو أنني تعرضت في موقف سابق إلي أقوال شعراء يذمون الشيب وكيف أنه حرمهم من متعتهم وجعل الحسناوات يبتعدن عنهم .
رضينا أم أبينا نرحل وتبقي آثارنا وذكرياتنا .

ــــ
أحد فصول كتابي ( ليالي الاغتراب بالتراي ستار) من ثلاثة أجزاء

قد يعجبك أيضاً

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.