الرئيسية » تحرر الكلام » الثقافة والمجتمع

الثقافة والمجتمع

وطن- تعرضَ دور الثقافة في المجتمع تاريخياً لوجهات نظر متباينة، وذلك بسبب فشل أغلب المعنيين بقضايا السياسة والاقتصاد والشؤون الإستراتيجية في فهم علاقة الثقافة بالحضارة، ما جعلهم يخفقون في إدراكِ أنَّ الثقافة هي نِتاج حضاري وعنصرٌ أساسي من عناصرها؛ الأمر الذي يجعلُ القيم والتقاليد وطرق التفكير والمواقف، أي العناصر الثقافية، أموراً نسبية تختلف بين مكان وآخر وزمن وآخر، تبعاً لتغير الحضارات وتباعُد الأزمة. وهذا يعني أنَّ ما يصح من قِيم وتقاليد ومواقفَ في مجتمع معيّن قد لا يصح في مجتمع آخر، خاصة إذا كان المجتمعان المعنيان يعيشان في كنفِ حضارتين مختلفتين، إحداهما صناعية مثلاً والأخرى زراعية. فمدلولاتُ مفاهيم العار والشرف والانتماء والروابط العائلية والهياكل الاجتماعية في مجتمع زراعي تقليدي تختلف كثيراً عن مثيلاتها في مجتمع صناعيّ، وهذه تختلف جذرياً عن مثيلاتها في مجتمع قبَلي يعيش على هامش تاريخ الحضارة الإنسانية.

يميل أغلبُ المثقفين وعلماء الاجتماع في العالم الثالث، خاصةً المُنتمين منهم لأمم عتيقة ذات أمجاد غابرة كالأمة العربية، إلى الادّعاء بأن الحضارة الغربية تتميّز بإنجازاتها الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية، وفشلها في تحقيق إنجازات ثقافية موازية. وعلى سبيل المثال، يقول هؤلاء إن العلاقات الإنسانية في الغرب عامة، وفي أمريكا خاصة تفتقد الحسَّ الصادق والبُعد العاطفي، ما يجعلها سطحية؛ كما وأن القيم والمثل والمعايير الأخلاقية تتدهورُ باستمرار، فيما تتفككُ الأسرة بسبب التركيز على النواحي المادية وإهمال النواحي الروحانية. ومع صواب أغلب هذه الانتقادات، إلا أن هؤلاء المثقفين ينسَون أو يَتناسَون ما حققته الحضارةُ الغربية من إنجازاتٍ ثقافية غير مسبوقة في الميادين ذاتِ العلاقة بحريات الإنسان الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وذلك إلى جانب حريات الرأي والفكر والعبادة. من جانب آخر، قام الغرب عامة ودول اوروبا خاصة بتطوير الأدب والموسيقى والمسرح والرياضة، ومختلف أنواع الفنون والعناية بالبيئة، واقرار حق الإنسان في التعليم والرعاية الصحية، والمشاركة في العملية السياسية؛ وفوق ذلك كله، قاموا بتحرير المرأة من القيود التي كانت تكبلها، ومساواتها بالرجل أمام القانون.

كتب الدكتور محمد عدنان بن مير: ثقافات وحضارات أي حوار

إن المثقفين الذين يَتهمون الغرب بالإخفاق في المجال الثقافي يعترفون ضمناً، على الأغلب من دون وعي، بأن الثقافة هي نتاجٌ حضاري، وأن حضارة الغرب الصناعية، بسبب انطلاقها من الرغبة في إنتاج بضائع وخدمات وبيعها بهدف تحقيق الربح، أفرزت ثقافات تهتمُّ بنواحي الحياة المادية أكثر من اهتمامها بالنواحي الروحانية. مع ذلك، يشير البُعد الثقافيَّ الاجتماعي للتطور الحضاري إلى أن الحضاراتِ الإنسانية المتتابعة، بدءاً بحضارة الرعي القبَلية، ومروراً بحضارتَي الزراعة والصناعة، قامت بإنتاج ثقافاتها الخاصة بها، وأنّ كل حضارة تالية كانت أكثر اهتماماً بنواحِي الحياة المادية، وتقدُّماً في المجالات العِلمية والاقتصادية والتكنولوجية، وانفتاحاً من النواحي الثقافية والاجتماعية، وتسامحاً من النواحي الدينية، وإبداعاً من النواحي الفكرية والفنية، واهتماماً بالحريات العامة والبيئة من الثقافة السابقة لها. وهذا يعني أن التحول نحو المادية بعيدا عن الروحانية كان حتمية تاريخية لم يكن بإمكان مجتمع غربي أو شرقي، شمالي أو جنوبي أن يتجاوزها ويحافظ على عاداته وقيمه ومواقفه التقليدية التي ورثها عن أجداده.

ومع أن العلاقات الإنسانية في دول العالم الثالث عامة، خاصة في الأرياف، تتصف بمتانتها وميلها العفوي إلى الصدق والعاطفة، إلاّ أنه من المشكوك فيه أن تكون أفضل من مثيلاتها في مجتمعات الغرب الصناعية. وفي الواقع، تبدو العلاقاتُ الاجتماعية والروابطُ الأسرية في مدن العالم الثالث الكبيرة، مثل القاهرة وكلكتا وسان باولو، أقلّ متانةً وصِدقاً من مثيلاتها في بلدة صغيرة في اليونان أو اسبانيا أو روسيا. وهذا يعني أن العلاقات الاجتماعية والسلوكيات الفردية والقيم في مدن العالم الكبيرة، بصرف النظر عن أماكن وجودها وانتماءاتها الحضارية، أصبحت متشابهة إلى حد كبير؛ الأمر الذي جعل ثقافة المدن تختلفُ عن ثقافات القُرى والأرياف في كل مكان.

هناك عوامل عدة تُسهم في “بلورة” هذه الظاهرة الثقافية غير العادية وغير الصّحية، بعضها خارجي دخِيل، وبعضها داخلي عُضوي. ومع تعدُّد الأسباب والمسببات، إلا أن تغيُّر نمط الإنتاج وعلاقات الإنتاج في المدن الكبيرة عنها في القرى والأرياف يُعدّ المسؤول الأول عن تطعيم الثقافات التقليدية بعناصرَ غريـبة عنها، تُبعدها عن جُذورها الريفية، فيما تـتسب في تشويهها. ومن المظاهر الرئيسية لهذا التحول، ضعفُ العلاقات الاجتماعية في المُدن بشكل عام، وزيادة تعقيد الحياة مقارنة بمثيلاتها في القُرى والأرياف، وتصاعد حِدة المشاكل الاجتماعية مثل الجريمة وتعاطي المخدرات، وأزمات السير، وانتشار الفقر، وتلوث الهواء. وفيما نجحَت مدن العالم الثالث الكبيرة في استيراد الكثير من التشوهات الثقافية والمشكلات المتوطنة في مدن الغرب الصناعية، إلا أنها أخفقَت في اقتباس قِيم العمل والإنتاج واحترام الوقت التي لا بد من وجودها وشيوعها في المجتمع لتحقيق النهضة والتقدم بشقية الثقافي والاقتصادي.   

وإذا كان بعضُ مثقفي العرب يَتهم الثقافة الغربية بالماديةِ والبُعد عن الرُّوحانية، فإنَّ بعض مثقفي الغرب يتهمون الثقافة العربية والإسلاميـة بالتخلف والهمَجية أحياناً. ومع إيماننا الكامل بخطأ وجهتَي النظر الغربية والعربية على السواء، وسوء أهدافها وعنصرية بعضها، إلاّ أن الاتهامات المتبادلة تلاقي اليوم قبولاً شعبياً واسعاً على كلا الجانبين، وذلك بسبب عُمق التحيّز والتفرقة وسوء الفهم المتبادل بين أتْباع الثقافات المختلفة ذات الجذور الحضارية المتباينة. ويعود سوء الفهم هذا أساساً إلى الإخفاق في إدراك أنّ القيم الثقافية أمورٌ نسبية وليست مطلقة، ما يجعل مقارنة عناصر ثقافية تنتمي لحضاراتٍ مختلفة خطأ لا يحوز لمفكر أو مثقفٍ أو قائد سياسي أن يرتكبه.

قد يعجبك أيضاً

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.