ثمة قيمة واعتبار كبيرين يردهما “معجم الدوحة التاريخي للغة العربية“، سواء إلى اللغة، وكذا الأمة الناطقة بالضاد، مروراً بحضارتها وذاكرتها القديمة، لصناعة بطاقة مرور ثمينة نحو المستقبل، لتمثّل الأمة العربية شريكاً فاعلاً وإيجابياً، وليس مجرد شاهد من بعيد، غير مؤثر، يتنقل بين زوايا الهامش.
يضاف إلى ذلك، الأهمية القصوى لصفة التاريخية التي يجري إهدارها، من خلال إطلاقها على العديد من الأحداث، التي لا تقترب بعمق ومنهجية ورؤية على مثل هذه المشاريع، والتي تكتسب تلك الصفة، وتكون حاملاً لوعي تاريخي وثقافي وحضاري.
دشن “المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسة“، في نهاية العامة الماضي، بوابة إلكترونية لهذا الحدث التاريخي والمفصلي في تاريخ المعاجم اللغوية، تحت مسمى “معجم الدوحة التاريخي للغة العربية“، الذي يعنى برصد قصة حياة كل مفردة في لغة الضاد، منذ أول استعمال لها، وتوثيقها عبر النقوش وأقدم النصوص، وتتبع ما طرأ عليها من تحولات وتغيرات وتطورات على مستوى المعنى والبنية والدلالة، وذلك بتعقب السياقات النصية في تاريخ اللغة العربية.
إذاً، نحن بصدد مشروع متفرد ومتمايز عن كل الجهود التي سبقته تاريخياً، كما هو الحال، مع “معجم القاهرة التاريخي“، الذي أنجز في ثلاثينيات القرن الماضي، بيد أن معجم الدوحة اعتمد جملة من الأسس التاريخية أحاط بها مشروعه لإصدار المعجم، واعتبرها بمثابة رؤية ومنهج انطلق منهما في خطواته نحو التنفيذ، حيث وضع من بين أهدافه ألا يكون مجرد قاموس آني، يضع المفردة لحظة استعمالها اللغوي، بل يفهم ويفكك المعنى المتفاوت من خلال تأثيرات الزمن على كل مفردة، وتعقب دور الزمن، ليس فقط عبر تتابع كرونولجي، ولكن الزمن الاجتماعي، الذي يحمل صفة التاريخية كحامل لوعي ثقافي وحضاري معين.
وفي كلمته الافتتاحية آنذاك، أشار المفكر العربي عزمي بشارة، أن صفة التاريخية وتسمية المعجم بـ“التاريخي“، إنما تخفي هذه التسمية التباساً، لكنه ذو دلالات كاشفة؛ حيث أن كثيراً من المعاجم تكون محتوياتها أقرب إلى موسوعات تاريخية، فتحتوي على أسماء الأعلام والأماكن وتعدد الأحداث، إنها قريبة من المادة التاريخية، لكنها ليست بمعاجم تاريخية، لذا، نعني بهذا المصطلح أمراً آخر تماماً؛ فالمقصود هو معاجم “تروي” قصة حياة الكلمات.
وبالتالي، فإن علماء الإيتيمولوجيا، خصوصاً منذ القرن التاسع عشر، قد فهموا أن أصل أشكال المفردات كان مجرد مدخل إلى مغامرة أرحب، والتي تبدأ خطوتها الأولى بتساؤل: متى وكيف دخلت كلمة ما إلى اللغة؟
ويوضح صاحب “أن تكون عربياً في أيامنا“، أن على المعجم التاريخي، إذن، أن يزاوج بين زمن ما قبل لغةٍ ما، وزمن هذه اللغة الداخلي. مثلاً، في الفرنسية، علينا أن نزاوج بين الزمن الذي يقاس بوحدة الألف عام لكلمة من أصل قديم سليل اللغات الهندوأوروبية، وبين مصطلح ناشئ عن توليد يقاس عُمره بالسنوات.
وتعد مسألة المصطلحات، بالنسبة لبشارة، ليست مسألة ترجمة فحسب، ولا تنتهي بمجرد ترجمتها إلى اللغة العربية، إنما هي مسألة بحث في المفهوم الذي تعبر عنه هذه المصطلحات، فضلًا عن تطويره والعمل على تعريفه. لأن المهم ليس الاتفاق على المفردة أو طريقة لفظها، بل المفهوم الذي تعكسه، والذي خلف تاريخًا كاملًا من التطوير والبحث إلى أن أصبح هذا المصطلح يُعبّر عنه. ولكن أيضًا من دون تجاهل أهمية التدقيق في استخدام المصطلحات وتوحيدها.
من الممكن تجاوز إشكاليات المصطلح العربي من خلال الاطلاع على ما أنجز في هذا الموضوع من توليد للمصطلحات وترجمتها، وذلك عبر شرطين؛ الأول أن القضية ليست قضية ترجمة ميكانيكية آلية، إنّما الأمر مرتبط بمدى تطور العلوم الاجتماعية والإنسانية لكي يعكس الأمر تطورًا داخليًا، بحيث نستنبط مصطلحات تعكس تفكيرنا وأبحاثنا بشكل حقيقي. أما الشرط الثاني؛ فيتمثل في ضرورة وجود مرونة لغوية في الترجمة، في ظل مواجهتنا لمشكلات حقيقيّة متعلقة بكل ما يعتبر “بادئات” أو “لاحقات” في اللغة العربية، تحديدًا تلك التي تفيد النفي أو نزع الصفة من المصطلح.
وفي ما يتصل بالنقاش حول إشكاليات المصطلح العربي، فإن بشارة يرى أنه ليس نقاشًا لغويًا فحسب، إنما هو نقاش مرتبط بمدى تطور العلوم الاجتماعية لدينا، مقدمًا نتاج ابن خلدون مثالًا على ذلك، ومؤكدًا على عدم المبالغة في أهميته اليوم لأنه مهم فعلًا، ولأننا إذا عدنا لمقدمته نجد مخزنًا من المصطلحات التي نفتقر إليها الآن، والتي تعكس أيضًا العديد من مصطلحات العلوم الاجتماعيّة والإنسانية. وذلك لأن ابن خلدون كان منشغلًا في التفكير في نتاجه الفكري نفسه، وأن الأمر ليس فقط عملية ترجمة؛ إذ قدم مصطلحات ملائمة لعدة مفاهيم استعصت ترجمتها، مقدّمًا كلمة “عصبية” الموجودة في الأدبيات الغربية مثالًا على ذلك، وقال إن الأجانب لم يعملوا على ترجمتها إنما أخذوها كما هي، لأنّها مصطلح له علاقة بالسياقات الفكرية والاجتماعية التي عمل فيها ابن خلدون.
يمكن القول إن معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، الذي شارك في إعداد المرحلة الأولى منه، أكثر من 300 أستاذ متخصص في اللغة العربي، من كافة الدول العربية، هو بمثابة حلم ظل يضغط وعي وخيال المتخصصين، منذ أكثر من مائة عام، قد نجح في سد الفجوة المتمثلة في رصد التغيرات في لحقت بالمفردة العربية، على صعيد الشكل والمضمون والمعنى التاريخي.
ويضاف إلى ذلك، أنه أمسى للكلمة العربية معجماً تاريخياً، يحفر أسفل طبقاتها الأركيولوحية، ويستعرض سياقها التاريخي والدلالي، ما يتيح للأجيال، أجيال الأمة العربية، استيعاب وهضم تراثها الفكري والعلمي والحضاري، وبناء المستقبل بوعي، وعلى أسس علمية ومعرفية.
ومن بين المميزات التي فطن لها المتخصصون الذين شاركوا في إعداد المعجم التاريخي للغة العربية، كما أوضح بيان المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، أن فرادة المعجم، تتأتى من مواكبته للتطورات التي تطاولها الكلمة، مما ورد في النقوش القديمة وحتى عصرنا الإلكتروني الحالي، حيث أن الذكاء الاصطناعي كان في خدمة هذا المعجم، ووضعت مدونة كبيرة للمفردات ومعانيها وتاريخها، ومن ثم تم تصنيفها وترتيبها بطريقة إلكترونية.
ويضيف: “المعجم الجديد سيسهل استخدام اللغة العربية في الذكاء الاصطناعي، إذ تحتمل المفردة العديد من المعاني التي تتبع البعدين الدلالي واللغوي، فكما حدس ابن اللغة العربية الذي يختزن خبرة إنسانية تجعله قادرا أكثر على الفهم، فإن مثل هذا المعجم ربما يتيح للمطورين فرصة أكبر في تعليم الآلة، بما يجعل خوارزمياتها قادرة على استيعاب دلالات الكلمات واستخدامها بشكل أفضل“.
وبحسب الموقع الإلكتروني لمعجم الدوحة للغة العربية، فإن المعجم يتضمن “ذاكرة” زمنية لكل مفردة في اللغة العربية، لا يتم اعتمادها من دون نص موثق. كما يقسم المعجم تاريخ اللغة العربية زمانيا ومكانيا، عبر مراحل مختلفة: من أقدم نص موثق وحتى العام 200 هجرية، ومن العام 201 هجرية إلى 500 هجرية، و501 وحتى وقتنا الراهن.
ويفصح المعجم أن نقوش اللغة العربية، تعود إلى الألف الأول قبل الميلاد، إذ جدت في المناطق الشمالية في الجزيرة العربية، وصنفت تحت عنوان نقوش العربية الشمالية العتيقة، وهي إما صفوية أو ثمودية، أو النقوش العربية القديمة، حيث أن النقوش الصفوية، منسوبا إلى منطقة “الصفا” جنوب شرق دمشق، وقد شكلت الصخور والحجارة في تلك المناطق سطوحا مثالية للنقش، والتي كانت ترتبط بلغة قريبة من “عربية العصر الجاهلي“، وكانت تروي قصص الترحال والحب واستذكار الموتى، إذ عثر على ما يناهز الـ 25 ألف نقش منها حتى الآن. بينما النقوش الثمودية، فهي تنتشر في شمال غرب السعودية وفي منطقة باير في الأردن، وتعود لما قبل الميلاد.
وإلى ذلك، يطلق على مجموعة نقوش تعود لفترة ما قبل الإسلام “النقوش العربية القديمة“، وأقدمها تعرف بالنقوش السبئية في القرن الثالث قبل الميلاد، وعثر عليها في نجران بالسعودية.