الرئيسية » الهدهد » سلامة كيلة.. نبي الثورة الأعزل

سلامة كيلة.. نبي الثورة الأعزل

كتب- كريم شفيق- في سنوات دراستي الجامعية التي ترافقت مع صعود ثورات الربيع العربي، بكل طموحها السياسي وزخمها الشديد، ضد الاستبداد والقمع وغلق المجال العام، كنا كشباب مأخوذين بالفائض الثوري الذي تم تحقيقه في تلك الفترة، وأسقط أنظمة عربية عتيدة وعرى شيخوختها.

 

جذبتنا الميادين والمساحات المفتوحة التي نقتحمها ونفض عذريتها بأصواتنا وهتافاتنا، في مواجهة السلطوية، وجرائم الأجهزة الأمنية، ونمر بين مخافر قطاعات الأمن، لنعبر على مخاوفنا وهواجسنا القديمة، بغية فضح تاريخ ممارساتها الدموية.

 

بيد أن ضعف خبراتنا الحركية، وربما تواضع معارفنا النظرية في الممارسة السياسية، وكلاهما ما زال جنيناً، في طور التجربة الأول، يتشكل في هذا الفضاء الصعب، كانت تؤدي بنا إلى مواقف حادة وعصبية ومآلات انسدادية.

 

كان المفكر الفلسطيني، سلامة كيلة، ابن بلدة بيرزيت الفلسطينية، والمولود في العام 1955، في السنوات التي تلت الربيع العربي، مثل نقطة ضوء عميقة تتكون حولنا، على مهل وبدون صخب أو جلبة، لم يمارس، للحظة، صراعاً جيلياً مع الشباب “الثائر” أو يفرض “مزايدات” حول نشاطهم السياسي ومواقفهم، من خلال أسبقية النضال ودفع أثمانه، كما لم يقيدنا داخل أي جدال ماضوي، يعطل من نضج تجربتهم وخصوصيتها.

 

وباختصار، لم يطرح سلامة كيلة ذاته باعتباره “كيلشيه” أو ومرجعية، تفرض التبعية نحوه، ويضطرك إلى أن تطوف حوله كي تلتمس “البركة” لنجاح الثورة، كما فعل غيره كثيرون.

“فتحت ثورة 25 يناير، ككل الثورات العربية، الأفق لثورة مستمرة، وضع ثوري يمكن أن يتفجر في كل لحظة. هذا هو الوضع بالضبط، من دون أن يكون للسلطة مقدرة على كبح الوضع، أو قمعه. إذن، علينا أن نودع الماضي، وأن نفتح أفقاً لعالم جديد”. هكذا ردد وكتب المفكر الفلسطيني، المناضل الصلب والعنيد، في الذكرى الرابعة للثورة المصرية. لا يقدم رؤى مغلقة وشمولية، بل منهج علمي يتسم بالجدل والديمومة، في محاولة دؤوبة لفهم شروط حركة التاريخ، بدون مصادرة حقوق الجميع في التفاعل وتقديم خبراته العملية والنظرية، على مستوى الفكر والممارسة، بغية تقديم فهم عميق لبنية الأحداث الكبرى، كالثورات والانتفاضات، تحليل مكوناتها وأطرافها وصراعها مع القديم ومصالحه وكشف تناقضاتها الرئيسية والثانوية.

 

تصادف معرفتي بالمفكر الفلسطيني، قبل ست سنوات، لم تنقطع خلالها الاتصالات والمقابلات بيننا، خاصة، أثناء تواجده في القاهرة. وفي حي المنيرة، في وسط العاصمة المصرية، كان يقطن في شقة متواضعة وبأثاث بسيط، لكنها غنية بالكتب المتراصة في كل ركن بالمنزل، بالإضافة إلى مكتبته الخشبية التي تنتصب قبالة سريره، وتلفازه المفتوح، دوماً، على الأخبار، بصوت عال، يسمعه أينما تنقل بين غرف الشقة.

 

تلك الشقة التي ظلت مفتوحة لأصدقائه ورفاقه، يستقبلهم بحفاوة وابتسامة وقورة، بينما نتطلع للحديث معه، بهدوء وحماس شديدين، ونتناوب على وجباته المميزة، لا سيما “المجدرة” التي كان يصنعها بنفسه.

 

ظل مهموماً بواقع فلسطين، شتات أبنائها وحقهم في الأرض ونضالاتهم ضد الصهيونية والإمبريالية والآلة العسكرية المتوحشة، فضلاً عن تاريخها وخصوصيتها الثقافية، وصراعات فصائلها السياسية، وحلم العودة إلى قريته. وحتى الرمق الأخير، لم يفقد بوصلته أو تضيع منه هويته وقد حافظ على قداستها.

لم ينقطع كيلة عن الحديث حول الوضع في سوريا وعسكرة الثورة، بواسطة آل الأسد، الذين دفعوا بالثورة للتوحش و”دعشنة” مساراتها، عبر إخراج الجهاديين من السجون، وتوريط الجميع في العنف، والدخول في دوامات الحرب الأهلية المرهقة، ما يبرر جرائم النظام البعثي بمافياويته وطائفيته.

 

لم تتوقف النقاشات عند حدود، حتى تعبر إلى غيرها، فقد شغله الواقع السياسي في القاهرة، في ظل الحكم العسكري، منذ تموز2013، وتحليل بنية النظام الطبقي ومكوناته، التي أدت إلى انتكاسة الثورة وهزيمتها، وبحث سبل الإنفراجة، بالإضافة إلى حال اليسار وسلفيته وجموده العقائدي وتموضعاته من الأحداث العالمية الراهنة.

 

بقى صاحب “العرب ومسألة الأمة”، طوال حياته، يعتبر نفسه إنساناً عروبياً، ولم يكف عن تعريف نفسه بأنه: مواطن فلسطيني سوري أردني مصري. لذا، شعر بمرارة شديدة، عندما اعتقلته أجهزة النظام البعثي في سوريا، في نيسان 2012، وجرى طرده من سوريا، كما كان يصف، وكأنه “أجنبي” هدفه التخريب، بخلاف واقعة سجنه، في المرة الأولى، العام 1992 بتهمة “مناهضة أهداف الثورة”، والتي قضى بسببها ثمان سنوات في معتقلات الأسد.

 

ربما، لا يعرف كثيرون أن مصطلح “الممانعة” الرائج، كان أحد اشتقاقاته في مرحلة وجوده في سوريا، والذي انتقد من خلاله، أو بالأحرى فضح زيف وتناقضات، خطاب اليسار “الممانع”، الذي بات يحتكره “حزب الله”، إذ يضع فلسطين باعتبارها قضية مركزية، يهدف إلى تحريرها، وعلى أساسها يحدد مواقفه الإقليمية، فيندرج وفق ذلك الخطاب المتهافت توصيف بعض الأنظمة السلطوية والفاشية في المنطقة العربية، ضمن الأنظمة “الوطنية”، كنظام البعث في سوريا والقذافي في ليبيا، وتصبح، مثلاً، الثورة السورية تحت هيمنة هذا الخطاب مؤامرة صهيونية!

 

وبسخرية شديدة، يكشف صاحب “الإمبريالية ونهب العالم”، أن هؤلاء الذين يندرجون تحت مسمى اليسار الممانع في العالم والوطن العربي، كادوا أن يرددوا أن ثورات الربيع العربي هي “ثورات ملونة” في تماهي فاضح مع الخطاب الروسي الذي يتحسس رأسه من أي “ثورة ملونة”.

 

وفي المقابل، اعتبر أن ذلك اليسار ونخبته، ممن يعتبرون أن فلسطين هي “البوصلة” السياسية لهم، ويحضرون للزحف من أجل تحريرها (فقط في الخطابات والبيانات التجيشيية)، ينطلقون من حقيقية وجود الدولة الصهيونية ومن ضرورة الإعتراف بها، وفلسطين بالنسبة لهم، تؤسس على مبدأ حل الدولتين، وتنحصر في الضفة وقطاع غزة، بحيث يضحى 80% من فلسطين التاريخية هي “دولة إسرائيل”.

 

مباغتة الموت الذي تحالف وتواطأ بقسوة شديدة مع المرض، ضد سلامة كيلة، يضاعف من الحزن والألم، على رحيل ذلك المثقف العضوي والمناضل الصلب، الذي تحرر من كل صور المثقف الرواقي الذي يبحث عن مريدين. ويبقى رصيده المعرفي وجهده النظري التجديدي في الماركسية، وتاريخه السياسي والنضالي، يبعث داخلنا الرغبة في المقاومة حتى تسقط ثمراته الناضجة.

قد يعجبك أيضاً

رأي واحد حول “سلامة كيلة.. نبي الثورة الأعزل”

  1. رحم الله المفكر العربي سلامة كيلة. حمل هم كل العرب وليس هم فلسطين فقط. سلامة كيلة رجل حقيقي في وقت صارت الرجال على شاكلة المنيك محمد بن سلمان ، والملاط به محمد بن زايد. وصرماية ترامب المدعو سلمان بن عبد العزيز.

    رد

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.