يهود ليبيا

“سِفْر الخروج” ليهود البلاد العربية هو سفر مدوَّن بشكل منقوص، وهو وإن حظي في الأبحاث التاريخية والأنثروبولوجية في الغرب بمتابعة، فهو لا يزال حقلا مهجورا في الدراسات العربية. لكن النقص في هذا المبحث لا يقتصر على هذا الجانب، بل يتعدّاه إلى تخبّط الكتابة العربية في موضوع اليهودية واليهود، التي لم ترتق إلى مستوى المعالَجة العلمية، وقد كنّا أفضنا في الحديث عن ذلك في مؤلف بعنوان “الاستهواد العربي في مقاربة التراث العبري” صدر عن دار الجمل (2006). وموضوع رصد تراجع أعداد اليهود في بلاد العرب والإحاطة بأسبابه وتداعياته هو أحد المواضيع التي تسود فيها رواية غائمة مفادها أن الأمر عائد بالأساس إلى الهجران الطوعي والتهجير القسري، في حين أن الأمر أبعد من ذلك وتتداخل فيه جملة من العوامل الجانبية.

كتاب المؤرخ موريس روماني الصادر بالإيطالية “يهود ليبيا: من التعايش إلى الرحيل” هو محاولة لتجاوز الرؤى الاختزالية في المسألة، من خلال سعي صاحبه لإعادة بناء الوقائع الاجتماعية على أساس وثائق الأرشيفات والشهادات الحية بعيدا عن التقولات والأحكام الجزاف. عِلما أن موريس روماني يهودي من مواليد بنغازي، منذ 1978 يدرّس العلوم السياسية، من مؤلفاته: “حالات يهود البلاد العربية”، “العامل الإثني في السياسة الخارجية الإسرائيلية” و”قوى التغيير في الشرق الأوسط”، أسّس سنة 1981 مركزا متخصصا في تاريخ اليهود السيفارديم.

كتابة تاريخ الهجرة اليهودية

يحاول الكتاب تسليط الضوء على الدور الرئيس للاستعمار الإيطالي في ذلك الخروج، مشفوعا بتتبّع ما كان يعتمل في الساحة الدولية من صراعات انعكست آثارها على مختلف الشرائح الاجتماعية. إذ يقوم البحث على فكرة جوهرية مفادها أن رحيل شقّ واسع من يهود بلاد المغرب حصل تحت ضغط الفاشية والنازية لا سيما في تونس وليبيا. وضمن هذا الإطار يستحضر المؤرخ سلسلة من الوقائع لدعم فرضيته التاريخية. حيث يركز اهتمامه في الحقبة الفاشية في ليبيا، متتبعا السنوات الممتدة بين 1938، تاريخ صدور ما يُعرف بـ”القوانين العنصرية” في إيطاليا، و1967 تاريخ اندلاع الحرب العربية الإسرائيلية وما خلّفته تلك الأحداث من اضطراب في أوساط الجاليات اليهودية. مبرزا كذلك الدور الذي لعبته المنظمات اليهودية الأوروبية والأمريكية في تهجير يهود ليبيا، وحشد الحالمين للـ”عاليا” (الهجرة) نحو إسرائيل، ناهيك عن الإجراءات التنظيمية والتعليمية والصحية التي رافقت الترحيل، ثم في موضوع متصل يتتبع الكاتب حجم الاستيعاب والإخفاق في المجتمع الإسرائيلي بعد مرور قرابة نصف قرن على الهجرة.

يستهلّ المؤرخ كتابه بسرد تاريخ اليهود القديم في ليبيا. إذ تعود موجات الهجرة إلى أمد بعيد، أُولاها مع نزول الفينيقيين بالمنطقة، تلتها موجة أخرى إثر هدم الهيكل في أورشليم مع نبوخذنصر سنة 586 ق.م. كما يورد المؤرخ وثائق تتحدث عن تحوّل مدينة برقة إلى منفى لليهود مع تيطس الروماني خلال 71م، وهو ما نجد له صدى في مدونات المؤرخ فلافيوس جوزيف. لم يشكل الفتح الإسلامي لليبيا في فترة لاحقة تهديدا لتلك الديانة، وعلى العكس لقيت في أحضانه الأمان بوصفها ملة من ملل أهل الكتاب. تواصل ذلك الوضع إلى غاية الفترة العثمانية، فمع أواخر عهد الدولة العثمانية غدا 69 من أعيان اليهود الليبيين، من الحاخامات والقضاة والسفراء، ضمن المقرَّبين من الباب العالي، وحظي أتباع تلك الديانة بـ21 بيعة و21 يشيفوت (مدرسة دينية) و19 بيتا للصلاة تلبي حاجاتهم الشعائرية.

على مستوى تدوين تاريخ يهود ليبيا، الذي يفرد له المؤرخ فصلا على حدة، يورد أن ذلك بدأ مع ثلة من المؤرخين جلّهم من أصول يهودية، مثل حاييم زيف هارشبيرغ، وشلومو دوف غويتن، وميشال أبيتبول. قدّموا من خلال أبحاثهم حصرا لأعداد اليهود، حيث قارب العدد الجملي في بلاد المغرب في حدود العام 1948 نصف مليون نسمة، أدناه في ليبيا 36.000 يهودي وأعلاه في المغرب الأقصى 260.000، فضلا عن 140.000 في الجزائر، و 105.000 في تونس. من جانبه يعتمد المؤرخ روماني تقارير ووثائق متعلقة بالطائفة اليهودية، محاولا من خلالها تسليط الضوء على مختلف أصناف التناقضات التي ألمّت بالجالية مثل التعايش والتدافع، والاضطراب السياسي والازدهار الاقتصادي، والطابع التقليدي والمنزع الحداثي، فضلا عن آثار ظهور القومية العربية والحركة الصهيونية.

ووِفق إحصاء لمؤسسة “التحالف الإسرائيلي العالمي” (Alliance Israelite Universelle) ورد ضمن الكتاب، كان يقطن 14.000 يهودي بطرابلس سنة 1903 وألفان ببنغازي، في حين توزع 4.480 على المناطق المجاورة. وقد كانت الطائفة اليهودية في طرابلس تضم في صفوفها جملة من العناصر الأجنبية، حيث يورد القنصل الإيطالي تواجد 79 يهوديا هولنديا و44 نمساويا وقرابة المائة إسباني، بالإضافة إلى رعايا بريطانيين يهود قدموا من منطقة جبل طارق وآخرين من مدينة ليفورنو الإيطالية. والجلي في ما اعترى أوضاع الجالية اليهودية، مع مقدم الإيطاليين، تأثرها الواضح بسياسة المستعمر. فما إن حلّ الاستعمار الإيطالي (1911م) حتى هلّل اليهود لمقدمه بوصفه مخلصا من نظام الملل العثماني. ودفعت أجواء الدعاية إلى التعلق بسراب التحرر، على اعتبار ما سيترتب عنه من تحديث للبنى الاجتماعية المتردية وما سينعكس على أوضاع الجالية اليهودية. ودائما مع سنوات الاستعمار الأولى، فقد حاولت الحكومة الإيطالية “طلْيَنة” يهود ليبيا وجذبهم إلى نموذجها الحضاري، وحذا الاستعمار الإيطالي حذو الاستعمار الفرنسي في إغراء اليهود بمنحهم الجنسية.

الفاشية ويهود ليبيا

كان الحدث الأبرز الذي هزّ إيطاليا بعد الحرب الأولى متمثّلا في صعود الفاشية، وهو ما لم ينحصر أثره بالداخل بل امتدّ إلى المستعمرات في الخارج. فقد اتخذ النظام الفاشي إجراءات صارمة طالت أوضاع اليهود في المستعمرات. في مرحلة أولى بدت العلاقة ودية ثم اتجهت نحو التعقيد لتشهد في الأخير تأزما فعليا. وفي البدء تجنّب موسوليني الصدام مع اليهودية العالمية تفاديا لأية عواقب. لكن الباحث جيني برنارديني يذهب في تحليله لعلاقة الفاشية باللاسامية، إلى تأصّل العداء لليهود في الفاشية منذ نشأتها، إذ يمثل التناقض مع اليهود جوهرا ثابتا في الفاشية، بوصفها أيديولوجيا قومية ذات طابع إمبريالي على غرار مثيلاتها من الأيديولوجيات القومية الأوروبية.

يفيد موريس روماني أن التعامل الإيطالي مع اليهود، وعلى خلاف التعاطي الألماني، كان متقلبا ومراوغا. التقى موسوليني عديد القادة الصهاينة، مثل حاييم وايزمان وزئيف جابوتنسكي وناحوم غولدمان وناحوم سوكولوف، وأُبرمت الاتفاقيات بين الطرفين لتيسير هجرة اليهود نحو فلسطين. ودائما ضمن مناورات موسوليني، فقد طمأن أثناء زيارته ليبيا بين 12 و 21 مارس 1937 اليهود، وفي خطوة مماثلة أعلن نفسه مدافعا عن الإسلام، تلقى حينها “سيف الإسلام” هدية من قادة إحدى القبائل الليبية. ويأتي قرار إسداء الجنسية لليبيين ومنعها عن اليهود، في التاسع من يناير سنة 1939، ضمن سلسلة من المناورات السياسية التي اتخذها موسوليني.

كانت سنوات ما بعد صدور “القوانين العنصرية” عصيبة على يهود ليبيا، وتبعا للمستجدات الجارية انسحبت الإجراءات الجديدة على الطائفة اليهودية، زادها حدّة تحول شمال إفريقيا إلى حلبة للصراع بين قوات المحور والحلفاء، انحاز فيها اليهود إلى قوات الطرف الأخير.

النشاط الصهيوني وانخرام الوئام الاجتماعي

استمرّ الاستعمار الإيطالي في ليبيا 32 سنة، من 1911 إلى 1943، تخلّلتها ولحقتها أحداث غيرت مجرى أوضاع الجالية اليهودية. يفرد لها المؤرخ ثلاثة فصول من كتابه. فمع الحرب العالمية الثانية وبحلول الفيلق اليهودي التابع للجيش البريطاني بليبيا شاع حلم الهجرة إلى فلسطين واستُعدّ للغرض بأنشطة ثقافية واجتماعية احتذاء بالتجارب الصهيونية في فلسطين. وعلى ما يوضح روماني فقد توجّهت أنظار الحركة الصهيونية نحو ليبيا لإنشاء وطن قومي لليهود منذ عهد مبكر. التقى الزعيم الصهيوني تيودور هرتزل قادة يهود ليبيا على أرض القسطنطينية سنة 1892، حثّهم حينها على المشاركة في الأنشطة الصهيونية. ثم جرى تبادل المراسلات بين يهود طرابلس وبنغازي والمؤتمرات الصهيونية في فيينّا بين 1900 و 1904. كان النظر للمنظمة الصهيونية، من جانب يهود ليبيا، بوصفها أداة أوروبية لرفع المظالم التي قد يتعرضون لها، ثم غدت وسيلة لإدخال إصلاحات اجتماعية وتحسين أوضاع اقتصادية، وما كان يُنظر إليها كأداة سياسية لبناء دولة. هذا التغلغل الصهيوني المتدرج، على ذكر المؤرخ، تدعّم بزيارة هرتزل ليبيا في غرة يناير 1904، طاف خلالها بمدن طرابلس والزاوية وغريان وتغرنة لحشد الأنصار.

ولم يفتأ هرتزل، قبل وفاته، أن التمس السماح بإنشاء وطن قومي لليهود في برقة، من ملك إيطاليا فيتوريو إيمانويل الثالث، تلاها سنة 1912 تشكيل أول تنظيم صهيوني في ليبيا تحت اسم “أورا فيسمحا” (نور ومرح) بقيادة إيليا النحايسي، الذي اعتبر إحياء اللغة العبرية حجر الزاوية الذي ينبني عليه الانبعاث اليهودي، وشهدت السنوات الممتدة بين 1920 و1930 أنشطة صهيونية مكثفة داخل ليبيا، استطاع الصهاينة من خلالها إدخال تحويرات في التعليم التقليدي وخلق تعبئة ثقافية ورياضية وجمع تبرعات لفائدة الصندوق القومي اليهودي في فلسطين.

“القوانين العنصرية” وحلول الفيلق اليهودي ببرقة

بحلول العام 1937 حصل تحولٌ في السياسة الإيطالية، وبدأت حملة تستعر ضد اليهود في الصحافة والإعلام. ولم تأت سنة 1938 حتى صدرت “القوانين العنصرية” التي حظرت على اليهود ارتياد المدارس العمومية في إيطاليا وليبيا والجزر الإيجية، تبعها منع الزواج على الإيطاليين من غير الجنس الآري. وعلى مستوى سياسي تم طرد المنتمين اليهود للحركة الفاشية، وفي التعليم تم عزل كافة المدرّسين اليهود شمل المرسَلين إلى المستعمرات. بلغ التوتر أوجه أواخر الثلاثينيات ومطلع الأربعينيات بإقامة محتشدات لليبيين ضمّت كذلك عددا من اليهود في جادو. خلّفت تلك الأوضاع ضغوطات دولية لعبت فيه المنظمات اليهودية العالمية دورا للسماح لليهود بالهجرة خارج ليبيا. ولم تأت سنة 1941 حتى حلّ بطبرق الفيلق اليهودي التابع للجيش البريطاني، مصحوبا بمدرّبين يهود. تمثّلت أعمالهم في افتتاح مدارس لتعليم العبرية وإسداء خدمات صحية واجتماعية وإنشاء معسكرات تدريب. ولعبت منظمات دولية يهودية مثل “المؤتمر اليهودي العالمي” و”الوكالة اليهودية” و”اللجنة اليهودية الأمريكية” و”الجمعية الإنجليزية اليهودية” و”التحالف الإسرائيلي العالمي” أدوارا مهمة في تبني قضايا اليهود الليبيين دافعة إياهم للهجرة نحو إسرائيل.

في الثالث والعشرين من يناير 1943 وعلى إثر دحر الإيطاليين من ليبيا حلّ محلهم البريطانيون. فعلى مدى قرابة نصف قرن شهد يهود ليبيا تبدل ثلاث سلطات: العثمانيون والإيطاليون والبريطانيون كل له قوانينه وسياساته معهم. لكن مع مقدم البريطانيين بات في صف اليهود حليف موثوق سواء في الداخل الليبي أو في طريق المهجر نحو فلسطين. في البدء كانت الهجرة مبادرة فردية ثم تحولت بين 1949 و 1952 إلى حملات منظمة وقانونية بوصفها تجري تحت مراقبة الانتداب البريطاني، وأثناء تلك الفترة هاجر معظم يهود ليبيا تقريبا باتجاه إسرائيل وإيطاليا، لقيت أثناءها الجالية اليهودية عقب سقوط الفاشية ترحيبا. لكن الفترة البريطانية في ليبيا تخللتها أحداث بين اليهود والأهالي مثل واقعة 1945، أوقعت انخراما في العلاقة بين مكونات المجتمع الليبي، تلتها أحداث 1948 التي جاءت تحت تأثير إعلان قيام دولة إسرائيل. لا يحمّل موريس روماني في هذه النقطة الطائفة اليهودية مسؤولية بتنكرها للوئام الاجتماعي وكأنه يبرئها مما حصل من أحداث.

يتناول الفصل الأخير من الكتاب تداعيات حرب 67 على يهود ليبيا، فقد تبقى إلى ذلك العهد زهاء خمسة آلاف يهودي، شملتهم موجة هجرة ضمن أزمة سياسية شاملة حلت بالمنطقة. وباندلاع ثورة الفاتح خلت ليبيا تقريبا من يهودها. لكن في مناورة من العقيد القذافي في أبريل 1993 أعلن مصالحة مع يهود ليبيا، شملت من يعيشون داخل الأرض المحتلة وبدأ الحديث عن تطبيع محتمل مع الكيان الإسرائيلي. كان المخطط يشمل إسداء تعويضات للمتضررين من الهجرة تخللته دعوة للتزاور من الجانبين. وبالفعل حلّ في يونيو من العام 1993 وفدٌ ضمّ 192 ليبيا بالقدس الشريف لقي حفاوة من قِبل وزير السياحة الإسرائيلي عوزي بارام. رتّب الزيارة حينها رافائيل فلاح، رئيس جمعية اليهود الليبيين بروما، بالتنسيق مع رجل الأعمال السعودي عدنان خاشقجي وياكوف نمرود أحد رجال الأعمال اليهود. وانتهت الزيارة بجولة خاطفة في المسجد الأقصى اعترضت عليها منظمة التحرير ومؤسسة الأوقاف بوصفها زيارة تطبيع مع الكيان الغاصب وأُبعد الوفد في التو عن الحرم الشريف.

تتمثل أهمية كتاب “يهود ليبيا: من التعايش إلى الرحيل” في حرص مؤلفه لبناء رواية تاريخية علمية في موضوع حساس تطغى عليه الأحكام الجاهزة. وإدراكا من المؤرخ موريس روماني لتناقض الرواية العربية والرواية الصهيونية في موضوع هجرة اليهود، حرصَ على انتقاد المزاعم والتقولات الطاغية في المبحث، مسلطا الضوء على الوضع الاستعماري المهيمن وما سببه من انخرام داخل بنى المجتمعات العربية، وهو ما انعكس سلبا على شرائحه الدينية المتنوعة.

الكتاب: يهود ليبيا.. من التعايش إلى الرحيل.

المؤلف: موريس روماني.

الناشر: كاستل فاكي (روما) ‘باللغة الإيطالية’.

سنة النشر: 2017.

عدد الصفحات: 330ص.

قد يهمك أيضاً

تعليقات

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

تابعنا

الأحدث