الرئيسية » تحرر الكلام » كولومبيا ما بين اباطرة حرب العصابات وبارونات تجارة المخدرات

كولومبيا ما بين اباطرة حرب العصابات وبارونات تجارة المخدرات

بعد 52 عاما من الصراع فى كولومبيا وبعد فشل التوصل لاتفاقيات سلام ثلاث مرات سابقة فى اعوام 1984 و1991 و1999 تم على الأراضي الكولومبية، فى 26 سبتمبر 2016 وللمرة الأولى، تصافح الرئيس الكولومبى” خوان مانويل سانتوس” ، و قائد حركة التمرد “رودريغو لوندونيو” والمعروف أيضا بلقب “تيموشينكو” وذلك بعد مفاوضات أستمرت أربع سنوات في العاصمة الكوبية “هافانا” والتى توجت بتوصل حكومة كولومبيا وحركة “القوات المسلحة الثورية الكولومبية” (فارك FARC) اليسارية إلى أتفاق سلام تاريخى لينهى أطول صراع فى تاريخ أمريكا اللاتينة.

جرت مراسم توقيع الاتفاق في مدينة قرطاجنة الكولومبية فى حضور نحو 2500 من الشخصيات البارزة الأجنبية والمحلية الذين ظهروا وهم يرتدون ملابس بيضاء رمزا لاحلال السلام، وكان بينهم 15 رئيس دولة لاتينية و27 وزير خارجية، وبمشاركة الأمين العام للأمم المتحدة بان كى مون، والرئيس الكوبى راؤول كاسترو، ووزير الخارجية الأمريكى جون كيرى.

وقع الرئيس الكولمبى “سانتوس” وثيقة السلام التى تضم 297 صفحة بقلم حبر تم صنعه من رصاصة رشاش ثقيل والذى كان يستخدم فى الحرب، وحفر على القلم عبارة “الرصاص كتب ماضينا والتعليم هو مستقبلنا” وتم أهداء نموذج للقلم الى ضيوف السلام، بينما قدم “تيموشينكو” مشبكا بشكل حمامة بيضاء تحمل غصن زيتون وشريطة بالوان العلم الكولومبى.

وتتضمن الوثيقة عدة عناوين رئيسية منها : تخلى عناصر “فارك” عن سلاحهم، وإعلان الحكومة العفو العام بحق جميع المتمردين، ومنح العدالة لضحايا العنف، وقطع العلاقات مابين فارك وعصابات تجارة المخدرات، ودمج المسلحين السابقين في النسيج السياسى والاجتماعي الكولومبى، وإنشاء محاكم خاصة للتحقيق في الجرائم التي تم ارتكابها على مدى السنوات الـ52 للحرب، وإجراء اصلاح زراعى كبير، وهو من أهم مطالب (فارك) التي كانت تعلن دائما أنها تمثل المزارعين الفقراء.

لكن حفل التوقيع لم يسفر عن تفعيل الوثيقة التى بمجرد اعلانها ؛ انقسم عليها الرأى العام ما بين مظاهرات معارضة وأخرى مؤيدة، وتم طرحها لاستفتاء عام فى 2 أكتوبر 2016 وشارك فيه مايزيد عن 12 مليون مواطن وأنتهى الاستفتاء الى رفض الوثيقة بنسبة 50.2 % ، وتركز الرفض فيما يتعلق ببرنامج العفو العام وخطة الادماج السياسى ، وتمت معالجة البنود محل الخلاف وأعيد عرض الوثيقة على مجلس الشيوخ ثم مجلس النواب اللذان وافقا عليها ومن ثم أصبحت الوثيقة نافذة.

تعود جذور الصراع الكولمبى الى عام 1948 عند اغتيال الزعيم الشعبوى “جورجى جايتان” مرشح الرئاسة عن الحزب الليبرالى والذى لم تعرف دوافع قاتله والذى قتل فى حينه ومن ثم تفرق دم “جايتان” عنفا بين جميع الفرقاء مما أحدث احتجاجات شعبية عنيفة واسعة عرفت باسم “البوجوتاثو” والتى أستمرت الى عام 1958، وآنذاك وعلى خلفية الصراع ما بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى، قامت الحكومة الكولومبية – وبما يتماشى مع السياسة الامريكية – بمطاردة الحركات الشيوعية فى المناطق الريفية مما دفع اليساريين والليبراليين على السواء الى تشكيل حركات ثورية مسلحة مناهضة.

وظهرت على مسرح الصراع ثلاثة اطراف رئيسية وهى الحكومة الكولومبية والمدعومة من الولايات المتحدة والبرازيل والمكسيك واسبانيا وفرنسا وكندا وايطاليا وبريطانيا ، وفصائل الحركات اليمينية المنبثقة عن العصابات الاجرامية وابرزها عصابة “البلاك ايجل” ، وفصائل الحركات اليسارية وأبرزها القوات المسلحة الثورية الكولومبية (فارك) وجيش التحرير الوطنى (ELN) وهى الحركات التى كانت تتلقى دعما من الاتحاد السوفيتى وكوبا وفنزويلا.

نشأت (فارك) عام 1964 كحركة يسارية لنصرة المزارعين الفقراء، وبلغ حجم قواتها 20 الف مقاتل لكن تقدر قوتها اليوم بحوالى 14 الف مقاتل وذلك بعدما تلقت عبر تاريخها عديد من الضربات الموجعة، وهى أكبر قوة مليشيات فى كولومبيا بعد قرار جيش التحرير الوطنى بتسريح افراده منذ عام 2002 ، وطبقا لمنظمة “هيومان رايت واتش” فأن 20 – 30% من اعضائها من صغار السن الذين أجبروا على الأنخراط فى (فارك) والتى يتركز نفوذها فى المناطق الجنوبية الشرقية والشمالية والجنوبية الغربية حيث تغطى هذه المناطق غابات واحراش على مساحة 500 الف كم مربع، وفى سهول سلسلة جبال الاندين الوعرة وفى الشمال الغربى من كولومبيا ، لكن فارك قد فقدت سيطرتها على كثير من هذه المناطق خاصة فى المناطق الحضرية مما دفعها الى للتمركز فى الجبال والاحراش والغابات.

وتقدر دراسة قام بها “المركز الكولومبى الوطنى للذاكرة التاريخية” أن الصراع الكولمبى (1958 – 2013) قد اسفر عن مقتل 220 الف فرد ما بين 177 الف فرد معظمهم من المدنيين ، ونزوح أكثر من خمسة ملايين مواطن فى ثانى أكبر ظاهرة تشرد فى العالم من بينهم 2.3 مليون طفل مشرد ، وطبقا لمنظمة الامم المتحدة للطفولة (اليونيسيف) مثل الاطفال ثلث عدد ضحايا الصراع البالغ عددهم 7.6 مليون فرد، وقتل فى الصراع نحو 45 الف طفل، وهناك حالات اختفاء لما يزيد عن ثمانية الآف طفل آخر، كما اجبر الاف الاطفال للتجنيد الاجبارى فى صفوف المليشيات.

ارتبط الصراع فى كولومبيا أيما ارتباط بزراعة اوراق الكوكا “الزمرد الأخضر” وتجارة الكوكايين، وتعتبر كولومبيا أحد أكبر منتج فى العالم للكوكايين بحجم تجارة 10 مليار دولار سنوياً وبما يمثل 43 % من حجم الانتاج فى العالم، وطبقا لتقرير صادر عام 2015 عن “مكتب الأمم المتحدة للمخدرات والجريمة” فقد تراوحت مساحة الأراضى المزروعة بالكوكا فى كولومبيا  96 – 140 ألف هكتار ، وتتركز معظم المساحة المزروعة بالكوكا (81٪) فى جنوب البلاد وهى المناطق التى تتواجد فيها “فارك” والتى ترتبط بشبكة زراعة الكوكا وإنتاجها والاتجار بها.

ويؤكد”مكتب المدعى العام الكولومبى” ضلوع (فارك) فى تجارة الكوكايين بسيطرتها على مناطق الانتاج ومعامل التكرير وطرق التوزيع ووسائل الاتصال مع العملاء المحليين والدوليين، كما أنها تقوم بحماية وتأمين الزراعات والمعامل والمزارعين وتحديد الاسعار وفرض الضرائب والرسوم على الانتاج واعمال التهريب ، وتقدر عوائد المليشيات الكولومبية من تجارة الكوكايين بحوالى 22.9 مليار دولار خلال الفترة من عام 1995 الى عام 2014 ، كما تسيطر عصابات كولومبيا على شبكة تجارة الكوكايين والهيروين فى نحو40 مدينة امريكية معظمها فى الشمال الشرقى للولايات المتحدة.

تسيطر (فارك) على مناطق نفوذ فى 25 مقاطعة كولومبية من بين 32 مقاطعة ، وهذه المناطق تضم 70% من مساحات الاراضى المزروعة بالكوكا والتى توفر40 % من إجمالى إمدادات الكوكايين فى العالم، وتفرض (فارك) فى مناطق نفوذها ضريبة على المزراعين 50 دولار عن كل كيلو من الكوكايين، اضافة الى ذلك فقد تردد أن (فارك) ضالعة فى عمليات ابتزاز واختطاف وأعمال غير مشروعة لاستخراج الذهب.

وترى كل من كولومبيا والولايات المتحدة أن (فارك) أحد أكبر منظمات تهريب المخدرات فى العالم لاينافسها سوى العصابات المكسيكية بينما تنكر (فارك) ضلوعها مباشرة فى تجارة الكوكايين لكنها تقر بأنها تمول أنشطتها من خلال الضرائب والرسوم على مراحل الإنتاج والتوزيع والتى تشمل المنتجين والمشترين والمهربين واصحاب معامل التكرير ومهابط ومدارج الطائرات، وفى مفاوضات هافانا، زعمت (فارك) ان سياسة الحكومة الكولومبية فى مكافحة المخدرات تركز على اضطهاد أضعف عناصر سلسلة الاتجار بالمخدرات وهما المزارعين والمستهلكين.

وفى عام 1999، حدثت زيادة كبيرة فى إنتاج الكوكايين الكولومبى وذلك فى تدهور الأوضاع الأمنية، مما دعى كولومبيا والولايات المتحدة لتبنى خطة مشتركة لمكافحة المخدرات والتى تهدف الى خفض أنتاج وتهريب المخدرات بنسبة 50٪ فى خلال ست سنوات، وقامت الولايات المتحدة بتقديم مساعدات الى كولومبيا بلغت 540 مليون دولار سنويا ( 2000 – 2008) لتكون كولومبيا ثالث اكبر مستقبل للمساعدات الأمريكية بعد اسرائيل ومصر.

وتنفق كولومبيا 812 مليون دولار سنويا منذ عام 2001 فى عمليات مكافحة تجارة المخدرات التى تستخدم فيها طائرات الرش الزراعى للقضاء على زراعة الكوكا برشها جوا بمركب الجلافوسات، وبلغت مساحة الزراعات التى تم رشها حوالى 1.6 مليون هكتار كما تقتلع زراعات الكوكا فى مساحة 413 الف هكتار سنويا ، لكن اعتبارا من عام 2015 تقرر الغاء المكافحة بالرش الجوى نظرا لأضراره على البيئة والصحة العامة وارتفاع تكاليفه بينما فعاليته لاتزيد عن 4.2 % من المساحات التى يتم رشها وبتكلفة 240 الف دولار لكل كجم كوكايين.

وتهتم (فارك) منذ نشأتها عام 1964 كمنظمة يسارية بالاصلاح الزراعى حيث طالبت باعادة توزيع الملكية لصالح صغار المزارعين وفى عام 1982 اقرت قانون الاصلاح الزراعى القاضى بنزع ملكية الاراضى التى تملكها الشركات الاجنبية العاملة بالنفط والتعدين والموز والأخشاب ومصادرة الملكيات الكبيرة الأكثر من 1500 هكتار واعادة توزيعها على صغار المزارعين.

وفى محادثات هافانا كانت التخلص من تجارة المخدرات احد القضايا الهامة المطروحة والتى ترتبط بخطة للتنمية الريفية والاصلاح الزراعى وتقدمت (فارك) باقتراح تحفيز الاستخدام الزراعى للأرض لإنتاج الغذاء لتحقيق السيادة الغذائية، وتطوير المجتمعات الريفية . وتم ادراج خطة للتنمية الريفية فى وثيقة السلام والتى تتعلق بتوزيع واستخدام الاراضى والتنمية الزراعية وبرامج للحد من الفقر والقضاء على الفقر المدقع وتحقيق الأمن الغذائي.

وتتوقع اتفاقية السلام دورا هاما لقوى (فارك) فى احداث التنمية الريفية من خلال تواجدها وعلاقاتها القوية مع المزارعين مما يمكنها المساعدة فى اقناع المزارعين بالتخلص من زراعة الكوكا والاتجاه نحو المحاصيل التقليدية مثل زراعات الموز الكولمبى، لكن الصورة ليست بمثل تلك البساطة بل تحتاج الى علاج لمشاكل المزارعين الذين يجدون صعوبات فى نقل محاصيلهم التقليدية من حيث وسائل وطرق النقل عبر الاحراش والغابات مما يرفع من التكاليف ويقلل من الارباح، بينما قيامهم بأنتاج الكوكا يحقق ارباح عالية تعادل ثلاث اضعاف المحاصيل التقليدية كما يعفيهم من النقل الى الاسواق فطالبى الكوكا يحضرون الى القرى حيث مزارعهم !

بصفة عامة ، هناك جملة من التوقعات ما بين الايجابية والسلبية ، ومن ابرز واهم هذه الايجابيات هو نشر السلام فى ربوع البلاد وقيام فاعليات (فارك) بتشجيع الاخرين على الانخراط فى عملية السلام واقناع مزارعى الكوكا باستبدال زراعاتهم بمحاصيل تقليدية فى ظل سياسة التحفيز الجديدة، بينما تتمثل التوقعات السلبية فيما يتعلق بجبهات وعناصر (فارك) التى يحتمل أن ترفض عملية السلام، وقد حدث ذلك بالفعل، وهذه العناصر ما بين احتمال استمرارها على نهج فارك وتحت مظلة ذات الأسم أو انخراطها و تعاونها مع جماعات أخرى، كما تتعرض جبهات وافراد (فارك) لاتصالات تشجيعية تهدف الى استمرارهم فى مواصلة توفير الكوكايين للسوق العالمى من خلال تمويل جاهز من العصابات الدولية العابرة لتجارة المخدرات فى المكسيك والبرازيل وفنزويلا وايطاليا وصيربيا والبانيا.

قد يعجبك أيضاً

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.