الرئيسية » تحرر الكلام » موسوعة الدرر الزاهرة في الأصالة المعاصِرة

موسوعة الدرر الزاهرة في الأصالة المعاصِرة

منهج الترقي بكلية الوجود الإنساني

تأليف الأستاذ الدكتور بسيوني الخولي

الطبعة الرابعة منقّحة وموسّعة 

المجلد الثاني

حضارة الإسلام

(الذات الحضارية للإسلام)

الجزء الثاني

مفهوم حضارة الإسلام ونظرية نشوئها

7

حضارة الإسلام

(الذات الحضارية للإسلام)

مفهوم حضارة الإسلام ونظرية نشوئها

تثبت المتابعة التاريخية لنشوء الحضارات وتطورها ، ثم لاضمحلالها واندثارها قيام علاقة مباشرة وقوية بين طبيعة كل حضارة في عناصرها ومفرداتها وأشكالها ونماذجها وبين شكل وطريقة نشوئها وتبلورها وظهورها إلى حيز الوجود ، بل وتفاعلاتها وتعاطيها مع عناصر ذلك الوجود وموجودات الكون وقدرتها على الاستمرار والتواصل .

وقد تفرد الإسلام في رؤيته للحضارة الإنسانية عموماً ، وفي صياغته لمفهوم حضارة الإسلام على وجه الخصوص ، وسنعمد إلى تبيان تلك الرؤية وتوضيح تلك الصياغة ، وتبدو أهمية ما تقدم عند الحديث عن نظرية نشوء حضارة الإسلام ، تلك النظرية التي حملت نفس السمة التفردية للإسلام في رؤيته للحضارة الإنسانية .

إن نشوء حضارة الإسلام يختلف عن نشوء أية حضارة أخرى ، ويرجع هذا الاختلاف إلى الطبيعة الخاصة التي اتسمت بها تلك الحضارة ، إنها الطبيعة التي تمثلت في عقيدة ذات صبغة إنسانية عالمية اكتسبت منذ ظهورها سمة الكفاحية ، فقد كافحت وهي دعوة سرية لم يجهر بها الرسول الذي اختصه الخالق العظيم بتبليغ الدعوة إلى شِرعة آخر الزمان ، الشِرعة التي سيفنى الكون ويعيد الخالق كوناً جديداً وهي تجلّي دين الله الخالص ، وتثبّته في الكون قبل ذهابه ، ذلك دين التوحيد الذي قامت الأكون عليه وكان الوجود تجلياً له ، ثم واصلت تلك الدعوة كفاحها عندما خرجت إلى العالم تخاطب البشر ، لتنتشر بينهم ويعتنقونها بشكل مذهل ، وبعد ذلك أصبحت الكفاحية دأبها في انتشارها وقدرتها العجيبة على الاستمرار وامتصاص الأزمات التي تعرضت لها !!

الإسلام كشِرعة وكدين وكمنهج حياة ، يستمد طروحاته وأصول وقواعد ذلك المنهج من الشريعة المتمثلة في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ، ثم من نماذج الممارسة العملية في دولة الرسول الكريم وخلفائه الراشدين من بعده ، وهذه الأصول هي المعين الذي تُستنبط منه تفسيرات الإسلام وتنظيماته لشئون الحياة ، وترتيباته لمساراتها بكافة مناحيها ، ولم يدع الإسلام أمراً إلا وقال فيه مقاله ، ولم يدع شأناً إلا وتناوله بالتنظيم .

والحضارة كإحدى أهم نواحي الحياة البشرية ، كان لها في الإسلام شأن عظيم وموقع متميز في طروحاته ، إلى أن وصل الأمر بحضارة الإسلام حتى أصبحت تعبيراً عن الإسلام ذاته ، فصارت حضارة الإسلام تعنى الإسلام ، واستتبع ذلك أن يكون للإسلام مفهومه الخاص وتعريفه المتميز للحضارة .

ويبدأ الإسلام بتعريفه للحضارة من خلال رؤيته الخاصة لنشأتها ، وهذه الرؤية هي حقيقة يقينية قوامها كلام الله سبحانه وتعالى خالق الكون ومسير حركته ومدبر شئونه والمطّلع علي أسراره والصانع لمفرداته ودقائقه ، فنشأة الحضارة لم يطلع عليها أحد ، ولم تُعرف إلا من خلال آثارها ومخلفاتها ، وما عرفه المعاصرون عن الحضارات البائدة قائم في شق كبير منه على التخمين والتوقع والاستنتاج المبنى على افتراضات غير يقينية ، إذ أن اليقين يجُب الافتراض ، ولا يُلجأ للافتراض في وجود اليقين ، فإذا جاء الحديث والأخبار عن الحضارات البائدة ، نشأتها وتطورها وزوالها عن الله سبحانه وتعالى مُوجد تلك الحضارات ومزيلها ، فهذا هو حق اليقين وعلم اليقين في ذات الوقت . 

وما من شك في أن الوقوف على حقيقة نشأة الحضارات وتطورها وذهابها سوف يفضي إلى التفرقة بين الحضارة بمفهومها وكنهها الصحيح ، وبين غيرها من المفاهيم التي تداخلت معها واقترنت بها وتم الخلط بينهما .

وفي نهاية المطاف يمكن الخروج بمفهوم الإسلام للحضارة ، أو بعبارة أكثر دقة الحضارة كما يعرفها ويعرّف بها الإسلام ، وهذا التعريف أو المفهوم سيحمل في طياته خصائص وسمات نعتبرها أساس حضارة الإسلام .

بعد أن أشرنا إلى رؤية الإسلام لمفهوم الحضارة وخصوصية مفهوم حضارة الإسلام ، نعمد إلى تقديم محاولة لتفسير نشوء حضارة الإسلام ، تلك الحضارة التي اختلفت في نشأتها وتطورها عن كافة الحضارات الإنسانية الأخرى ، وتبدأ تلك المحاولة بمتابعة انطلاقة العقيدة الإسلامية التي خرجت إلى الناس كافة ، واخترقت الحدود والحواجز الجغرافية والثقافية والحضارية والعرقية ، وظلت تكافح إلى أن عمت معظم العالم المسكون في ذلك الزمان ، ثم تابعت انتشارها وتغلغلها في العالم حتى وقتنا الراهن ، وستظل هكذا محافظة ومتمسكة بسمة أو خاصية القابلية والرغبة في الإنتشار والتصميم عليها إلى فناء الكون ، لأنها تحمل دين الله الخالص ، ولو كانت غير ذلك لبادت وهلكت كبقية الحضارات التي شهدها الكوكب .

إن الحديث عن نظرية تخص نشوء حضارة الإسلام يستوجب الرجوع إلى البيئة التي انطلقت منها عقيدة الإسلام بكافة ظروفها الطبيعية والمادية والحضارية والثقافية والاجتماعية والدينية ، وتبدو أهمية الوقوف على طبيعة تلك البيئة في اكتشاف الروح الكفاحية التي كان ينبغي على تلك العقيدة أن تتزود بها منذ البداية وهي تواجه عناصر ومفردات تلك البيئة الوعرة .

كذلك يرتبط بنشوء الحضارة الإسلامية تلك الظروف والتكوينات النفسية والفكرية والأخلاقية للرواد الأوائل الذين تلقوا الدعوة العقيـــدية منذ انبعاثها ، وسيكون لهؤلاء الرواد شأن عظيم في انطلاقة تلك الدعوة ، ومن ثم كان من المجدي والضروري معاً تحليل تلك الظروف والتكوينات بكافة جوانبها .

من البيئة الوعرة وبقلوب وعقول الرواد الأوائل انطلقت العقيدة الإسلامية انطلاقتها الأولى في عزم ومضاء ، لم تثنها صعوبة البيئة ، بل كانت دافعاً لها ، ولم يثبطها عنت وتصدي المتلقين الأُوَل للدعوة ، بل ربما زادها هو الآخر قوة وإصراراً ، كيف حدث ذلك ! .

لقد حدثت الانطلاقة الأولى واستحالت البيئة إلى قوة دافعة والرواد الأوائل إلى طاقة هائلة ، وعبرت العقيدة الحدود ، ميممة شطر عوالم الآخرين ، معلنة عن أهم سماتها وخصائصها وهي العالمية ، لتحلق في الآفاق وتصل إلى كل الشعوب ومختلف الأصول والأعراق ، ويحدث العناق بين الرواد الأوائل وبين المدد المتجدد من أبناء تلك الشعوب والأمم ، وشرعت العقيدة المنطلقة في عزم ومضاء تتغذى من داخلها .

كيف كان الخروج إلى عالم الآخر ؟ وكيف حُملت الدعوة العقيدية ؟ وكيف تم توصيلها وتبليغها إلى الأمم والشعوب ؟ وكيف تم ذلك العناق الأبدي بين الرواد الأوائل وبين المدد المتجدد ؟ وكيف بدأت العقيدة تتغذى من داخلها ، وتكتسب قوة الدفع من انطلاقتها ؟ أسئلة تحتاج إلى إجابات .

عندئذ كانت العقيدة الإسلامية قد وصلت إلى درجة من النضج باتت بموجبها نظاماً اجتماعياً متكاملاً ، يحمل في طياته حضارة تملك ذاتاً تجد تعبيراتها ونماذجها بأشكال عديدة ، تبدأ من الدعوة المتواصلة إلى الإسلام العظيم ، ثم تنتهي بالعلوم الطبيعية ، مروراً بالتنظيم بكافة أشكاله والنظام الاجتماعي بأسسه وأصوله ، إن تلك الذات الحضارية قد أعلنت عن أهم سماتها ، وهي أنها للناس أجمعين بمقتضى ما تتضمنه مرجعياتها ، وبمقتضى الواقع أيضاً ، حيث انبرت كافة الأعراق والعناصر المنضـوية في كنف الإسلام تشيّد صروح تلك الحضارة القوية السامقة .

لقد تشكّلت حضارة الإسلام بمفرداتها ومقوماتها المشار إليها ، واصطبغت بهويتها الإسلامية الملازمة لذاتها والمعبرة عن خصوصيتها وذاتيتها التي تمثلت في : الوازع الأخلاقي الذي صبغ كافة المفردات والمقومات ، ثم تعينت في السمة الشعائرية التي ميزت الأشكال والنماذج الخاصة بتلك الحضارة .

لقد كافحت حضارة الإسلام منذ نشأتها ، واكتسبت تلك السمة من العقيدة التي ارتبطت بها إلى درجة التطابق ، كافحت من أجل أن تحدد ذاتيتها وخصوصيتها ، ثم كافحت من أجل أن تجد لدى الآخرين الاقتناع والقبول ، ثم كافحت من أجل التصدي للأزمات والصدمات التي حاقت بها ، واستمر ذلك حالها من أجل الاستمرار والتواصل .

إن حضارة الإسلام قد تعرضت لفترة انقطاع يعلمها الجميع ، ولكن ذلك الانقطاع بالرغم من آثاره وعواقبه الوخيمة على مفردات تلك الحضارة ومقوماتها إلا أنه لا يعني الفناء أو الانتهاء ، فحضارة الإسلام لم تزل تكافح من أجل الخروج من هذا المأزق ، ولكن ذلك الخروج يحتاج إلى جهود خارقة للعادة ، ولكنها ليست بعزيزة على أبناء الإسلام الذين شيدوا تلك الحضارة وحفظوا كيانها لقرون طويلة .

قد يعجبك أيضاً

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.