الرئيسية » تحرر الكلام » الأعمال الموسوعية والطرح الإسلامي المفقود (1)

الأعمال الموسوعية والطرح الإسلامي المفقود (1)

التفكير في العمل الموسوعي لا يستهوي الإنسان إلا إذا ألح عليه ، واقترن بمسئولية إنسانية جسيمة ، يحتّمها الانضواء تحت لواء الإسلام ، والانتماء إلى أمة المسلمين ، فالعمل الموسوعي دائماً ما يحمل رسالة مطوّلة ومفصّلة ، لا تنتهي مهمتها بمجرد وصولها إلى المخاطب ، بل إن مهمتها لا تبدأ إلا من بداية وصولها إليه ، حيث تشرع في إفراز آثارها ونتائجها وتوابعها ، عندما تمنحه فرصة طويلة للبحث والاستقصاء والتنقيب ، ثم الأخذ والرد والجدل ، ومن ثم يكون الطريق مهيئاً للاقتناع فالاعتناق ، إذا كان المتلقي منصفاً ، يملك عقلاً ناضجاً وفكراً خصباً .

والأعمال الموسوعية تُوجّه إلى كافة صنوف وأبناء الجنس البشري ، لأنها تحمل في ثناياها أفكاراً عامة ، ومبادئ إنسانية ، ومثلاً وقيماً ، هي في الأغلب الأعم تهم جميع البشر ، فهي تُوجّه إلى المؤمن الموالي ، كما توجه كذلك إلى غير المؤمن وغير المهتم ، فالأول سيزداد إيمانه ، ويتعمق ولاؤه ، والأخير يُمنح الفرصة ، ليعرف ويطّلع ويهتم وربما يؤمن .

إن الإسلام وطروحاته في كافة مناحي الحياة وعناصر الوجود ، يمثل ثورة من أجل الإصلاح والصلاح ، ومن ثم فهي تحتاج إلى من يوصّلها إلى البشر على اختلاف صنوفهم ، وهذه مهمة أبناء الإسلام ، ومهمة التبليغ لا تعني أن المسلمين مطالبون بإرغام الناس أن يكونوا مسلمين ، ولكن التبليغ هو للعلم  والإحاطة ، أما الإيمان فهو اختيار وأمره إلى الله .

كما أن لغة الخطاب وأسلوب الحوار ينبغي أن يعمدا إلى مواءمة الرسالة ومحتوياتها ومفرداتها مع الواقع المعاصر ، في قضاياه ، وطريقة تفكيره ، وسلوك معاصريه ، وهذه المواءمة لا تعني بحال من الأحوال السير في ركاب العصر ، والتلون بألوانه ، والاصطباغ بأفكاره ، ولكن المواءمة تعني التعامل والتعاطي مع العصر بكل ظواهره وكافة وقائعه ، باستخدام أدوات تحليل خاصة ، ومنطق ذاتي يعبر عن خصوصية التناول وتميز التعامل .

وللأعمال الموسوعية دورها الحاسم في كتابة التاريخ ، للحضارات والمدنيـات ، وللحقب الزمنية ، وللمناطق الجغرافية ، وللدول والنظم السياسية والاقتصادية ، ونوابغ البشر ، من خلال التناول المتأني والتحليل التفصيلي والبحث الحريص .

ولقد كان التفكير في العمل الموسوعي يراودني ، ويداعب خيالي منذ نهاية عقد الثمانينيات وبداية تسعينيات القرن الماضي ، ومنذ ذلك التاريخ وأنا أعد العدة لخوض غمار هذه الرحلة الممتعة ، وكان لتجوالي في أنحاء من العالم الإسلامي ومعاشرة شعوبه ، بكافة طوائفها وفئاتها ، أثر بليغ في شحذ همتي للإقدام على عمل موسوعي ، والتصميم على المضي قدماً في سبيل إنجازه وإتمامه .

كذلك كان للتطورات والتبدلات ، التي شهدها العالم ، وعلى الأخص الثورات العربية المجيدة التي تبشر بانبلاج فجر الحرية والكرامة لإمة ذات رسالة إنسانية ، أثرها في تحريك المشاعر وإلهاب الحماس لتقديم الطرح الإسلامي ونظرته الذاتية ومنطقه الخاص في التعامل مع تلك التطورات ، والدفع بنماذج الإسلام في الفعل والممارسة ، بوصفها بدائل تجمعت لديها مقدرات التواجد ومقومات التفاعل .

إن تقديم رؤية إسلامية شاملة للمجتمع بكافة نظمه الفرعية : السياسية والاقتصادية والثقافية والحضارية .. الخ ، وحركته في اتجاه وضعية مثلي لحياة البشر ، عبر نماذج للممـارسة يضع أصولهـا الإطار المرجـعي الإسلامي ، ويشارك في صياغتها وتفعيلها أفراد المجتمع ، لهي رؤية جديرة بالبحث والدراسة ، وخليقة كذلك بإبلاغها إلى بني البشر ، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين .

وشمولية الرؤية الإسلامية ، وعمومية الطرح الإسلامي لكافة جوانب المجتمع ، تمثل إحدى القضايا المحورية التي ينبغي إبرازها وتكثيف الضوء عليها ، لأنها في جوهرها ثورة إصلاح وصلاح ، كما أنها تتصدى بذكاء ومضاء للدعوى الخبيثة ، التي يحاول الكثيرون أن يقيموها في مواجهة الإسلام والمسلمين ، ومفادها أن الإسلام دين أحادي النظرة ، يغلب عليه طابع الشعيرة التعبدية التي تخرج به من إطار الحياة ، وواقع الحركة والفعل إلى نطاق النسك الجامد المحدود المنعزل عن الحياة .

قد يعجبك أيضاً

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.