الرئيسية » الهدهد » سامي الحاج يتحدث عن تفاصيل إضرابه عن الطعام في معتقل “غوانتنامو”

سامي الحاج يتحدث عن تفاصيل إضرابه عن الطعام في معتقل “غوانتنامو”

في الحلقة الثانية من مذكراتغوانتانامو.. قصتي” يحكي السجين رقم 345 المدير الحالي لمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسان سامي الحاج قصة إضرابه عن الطعام حينما كان يقبع في ذلك السجن الرهيب:

 

قررت أن أدخل في إضراب عن الطعام في وقت تزامن على نحو ما مع افتتاح المعسكر السادس في غوانتانامو، بالنسبة لي كان حفظ الأيام والتواريخ في داخل العنابر والزنازين أمرا بالغ الأهمية. وعليه، فقد بذلت جهدي ما استطعت في متابعته والحرص على تذكُّره، مع أنه كان أمرا بالغ الصعوبة إن لم يكن مستحيلا في بعض الأوقات، خاصة خلال الأيام التي كنت أُحبَس فيها داخل زنازين الحبس الانفرادي المغلقة بالكامل والمظلمة تماما وعلى نحو دائم.

 

إضرابي عن الطعام وافق الأسبوع الأول من شهر يناير/كانون الثاني من العام 2007، بُعيد أيام من انقضاء شهر ديسمبر/كانون الأول للعام 2006. في البدء أخذت في تقليل الطعام ثم رُحت أقلل من عدد الوجبات اليومية بتناول بعضها وردِّ بعضها، وبعد ردِّي تسع وجبات شملت الإفطار والغداء والعشاء أخلَوا الزنزانة التي عن يميني والأخرى التي عن يساري كي يتأكدوا من أنه ليس من ثمة أحد يمرر لي بعض أصناف الغذاء خفية.

 

وبعد ردي تسع وجبات أخرى دخل علي الضابط والطبيب وقالا سنعمل على فحص ضغط الدم عندك على نحو يومي، وعندما كانا يجدان الضغط منخفضا كانا يجبراني على شرب قارورتين من الماء. كانا أحيانا يقيسان ضغط الدم ثلاث مرات في اليوم. في تلك الفترة التمهيدية كنت أتناول القليل جدا من الطعام على فترات متقطعة، وداومت على ذلك لفترة من الوقت أُصبْتُ خلالها بإمساك حاد صحبته دمامل البواسير، لكنني طوال تلك الفترة التمهيدية كنت أجدد عزمي يوما بعد يوم على ضرورة التوقف التام عن تناول الطعام.

 

ثم -وعلى ما أذكر- أعلنت بعد عيد الأضحى مباشرة إضرابا تاما عن الطعام في السابع من يناير/كانون الثاني 2007، أرسلت رسالة إلى الجنرال طالبته فيها بخمسة مطالب قبل أن أرفع إضرابي عن الطعام، أولها: احترام الدين، ثانيها: حقنا في التمتع بالحقوق التي تنص عليها اتفاقية جنيف الخاصة بالأسرى، ثالثها: إعطاؤنا الحق في المرافعة عن أنفسنا أمام المحاكم المدنية، الأمر الذي كفلته لنا المحكمة الأميركية العليا وأقدم الكونغرس على اغتصابه منَّا، المطلب الرابع تمثَّل في إعادة الإخوة الذين عزلوا في معسكر إيكو لفترات طويلة، أمَّا المطلب الخامس والأخير فقد نصَّ على ضرورة التحقيق في مقتل المعتقلين الثلاثة الذين قضوا في العاشر من يونيو/حزيران العام 2006. رفعت هذه المطالب وأمسكت بعدها عن تناول الطعام مع مطلع فجر السابع من يناير/كانون الثاني 2007.

 

نجحت في الإضراب عن الطعام لشهر وأنا بعدُ في العنبر، ولا يفوتني أن أذكر هنا أنهم عند دخولي مرحلة الإضراب الكامل وأنا في العنبر تعمَّدوا أن يهملوني، وبالفعل أهملت طوال ذلك الشهر من أجل أن أيأس وأتراجع عن مطالبي تحت وطأة الجوع والعطش، وفي أواخر ذلك الشهر بدؤوا في تقديم بعض الإغراءات لي كإيهامي بأنني سأخرج قريبا من المعتقل مع محاولة التقرب لي بالقول: إنك لا تزال شابا وأمامك الحياة بكل ما فيها فلم تقتل نفسك وقتل النفس في دينكم حرام؟! ثم إن لديك أسرة هي الآن في انتظارك، لكن خاب ظنهم إذ تحملت بعون الله كل المشاق وقاومت كل الإغراءات وتمكَّنت من إنهاء الشهر بعزيمة لا تفتر ومثابرة لا تكل، ولما انقضى الشهر وتأكدوا من أنني سأواصل إضرابي للشهر الثاني الذي كان قد أطل، خاصة وأن وزني كان قد نقص من تسعين كيلو جراما إلى 56، حينها بدؤوا مجبَرين على نقلي إلى المستشفى وحجزي فيه.

ملهمون

في المستشفى، وعلى غير ما كانت عليه الحال أيام الإهمال المتعمد في العنبر، بدؤوا أولا بتغذيتي عن طريق الوريد، ما دفعني إلى مقاومتهم قدر ما تبقى في جسدي من طاقة، لكنهم كانوا يمسكون بذراعي ويغرزون الإبر على نحو مؤلم للغاية في عروقي.

 

تلك الفترة كانت ملأَى بالألم والأخطاء المتعمدة والاستهزاء والسخرية، غير أن كل ذلك لم يكن ليزيدني إلا عزما وإصرارا على الاستمرار في إضرابي. ثم إنهم قرروا بعد فشلهم في استخدام غرز الإبر تجربة الضغط النفسي كوسيلة لإجباري على أن أخضع لتغذية قسرية عبر الأنبوب، خاصة أن حالتي الصحية لم تكن تسمح بمزيد من التأخير المتعمد بحسب “الطبيب” المشرف على التعذيب.

 

كانوا يقولون لي: إن أعزاء لك سيموتون وأنت ستموت جراء رفضك للطعام وحقن الوريد، كذلك يتفننون في خلق الأجواء المرعبة والمخيفة وبالطبع التحدث معي على نحو مزعج وسيئ خال من أبسط قواعد الأدب. كان الجوع قد دخل من لحمي إلى عظمي، لكنني كنت متسلحا بإيماني بالله لذلك لم أكن منزعجا بينما كانوا هم بالمقابل يتعاملون بعصبية ونرفزة وانزعاج بالغ. كنت أستحضر في نفسي سيرة بلال بن رباح وكيف كان يصبر في هجير صحراء مكة على أصناف العذاب، كانت صورته وهو راقد والصخرة على صدره ولا ينفك يردّد: أَحدٌ أَحد.. لا تبارح ذهني.

 

أيضا كنت أتذكر جعفر بن أبي طالب حين أمسك الراية بشماله بعد أن قطعوا يمينه ثم أمسكها بعضديه بعد أن بتروا يده اليسرى، كنت أتذكر بطولة عبد الله بن رواحة وشجاعة خالد بن الوليد الذي لم يبق في جسده شبر إلا وفيه ضربة من سيف أو طعنة من رمح أو رمية من نبل. نعم، وكما قال أرنست همنغواي “يمكنك أن تسحق رجلا لكن لا يمكنك أن تهزمه.

 

ذات يوم كئيب لكنه كان مشهودا تجمع حولي طاقم المستشفى على نحو ما يفعل أطباء الطوارئ، وما هي إلا لحظات حتى أمسكوا بي فأحكموا القيود والأصفاد ثم انهمكوا في تقييد أطرافي الأربعة على نحو لم أستطع معه الحركة، وبكل العنف والقسوة أدخلوا أنبوبا مؤلما في أنفي، الأمر الذي أصابني بشيء من الاختناق والإغماء، ثم بدأ حلقي في الالتهاب وراحت آلامي تشتد في المريء والحنجرة، وحين أُفرغ الأنبوب في معدتي الخالية شعرت بالضبط وكأن جمرة من نار قد نزلت في جوفي بغتةً وعلى حين غرة راحوا بتعمُّد وقصد يدفعون الأنبوب داخل رئتيَّ ويفرغونه فيهما، ثم أعقبوا ذلك بقطرات من الماء ملأت رئتيَّ فشرقت وأخذني سعال شديد ثم اختناق شبه تام، عندها أحسست بأنني قد دخلت بالفعل في سكرات الموت، فجسمي تغير لونه وامتقع وجهي واضطربت أنفاسي، بينما راح العرق يتصبب غزيرا من كل خلية في جسدي وأعقب ذلك تقيؤ مريع.

 

وبعد نصف الساعة على وجه التقريب اعتراني ضرب من التشوش المصحوب بآلام معوية رهيبة، مضى وقت فتمكنت من التنفس وأفقتُ، ثم شيئًا فشيئًا أخذت أشعر بقليل من النشاط يدب في أعضاء جسمي، ثم إنني ورغم الآلام المتصاعدة من المعدة طلبت منهم -وقد بدت وجوههم كالحة وقسوتهم بادية- أن ينزعوا عني القيد والأصفاد كي أصلي، غير أنهم رفضوا رفضا باتا متذرعين بحجج أمنية عديدة، منها أنني قد أقوم بعمل عنيف في حال نزعهم القيود والأصفاد عني، فما كان مني إلا أن سألتهم مستنكرًا “ماذا عسى أن يفعل رجل في مثل حالتي هذه؟ لا تتذرعوا بهذه الحجج الأمنية ولكن قولوا لي إننا لا نريد أن نسمح لك بالصلاة” ساد الصمت لبرهة ولم يجبني منهم أحد فحمدت الله في نفسي على أنني مضرب عن طعام قوم هذه حالهم وتلك صفاتهم.

المصدر: الجزيرة نت

قد يعجبك أيضاً

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.