الرئيسية » تحرر الكلام » الجيوش الوطنية والثورات العربية

الجيوش الوطنية والثورات العربية

دراسة منهجية تجريبية موثقة ننشرها على صفحات هذه الصحيفة 

(32)

الحالة الأخيرة من نماذج الجيوش العربية التي واجهت شعوبها الثائرة بالقتل والتدمير ، كانت حالة الجيش السوري ، الذي جابه الشعب السوري من أول لحظة من لحظات الثورة على نظام الحديد والنار البعثي ،بكل ما أوتي من قوة .

وعلى شاكلة الجيوش العربية التي تفاخر دائماً بما لم تفعل تنم الخلفية التاريخية لتكوين وتشكيل الجيش السوري عن أنه جيش أُعِدّ لمواجهة المواطنين بالأساس ، فلم يكن ذلك الجيش في يوم ما جيش الدولة والشعب ، بل كان دوماً جيش النظام الحزبي الاستبدادي ، الذي اكتسب خبرة عميقة في قتل الشعب السوري في مذابح جماعية سجلها التاريخ ، على شاكلة جناحه الشرقي جيش “صدام” الذي أباد عشرات الآلاف من الشعب العراقي .

لقد عاش الجيش السوري ومعه الشعب بل والشعوب العربية فترة طويلة في عتمة وزيف خرافة المقاومة والممانعة ، التي أطلقها نظام البعث المقيت ، ليتشبث بشرعيته المهترئة، ووجوده المكفول بقوة السلاح ، وعندما قامت الثورة السورية العظيمة تكشف للغافلين أن المقاومة والممانعة كان المقصود بها هو الشعب السوري المقهور .

لقد قتل الجيش السوري الشعب الثائر الرافض للذل والهوان بما هو أبعد مما يمكن أن يذهب إليه الخيال الإنساني ، بل لم يتورع عن استخدام الأسلحة الكيماوية في حربه ضد الشعب ، وبالرغم من كل ذلك لم يفكر الكبار في ما يُدعى بالمجتمع الدولي بالتدخل ضد ذلك الجيش من أجل نصرةالثورة السورية وإنقاذ الشعب البائس الذي توزع بين : القتل ، والتشريد في الداخل ، واللجؤ في الخارج ، ونير النظام الرهيب .

مختصر تاريخ الجيش السوري الحزبي الطائفي

منذ أن سيطر حزب البعث على الدولتين السورية والعراقية ، وهو يضع نصب عينيه تكوين جيش قوي ، ليس من أجل مواجهة إسرائيل ، بل من أجل قهر الخصوم الأيديولوجيين في الداخل وفي الجوار ، ومن أجل ذلك كانت طبيعة تكوين وتشكيل الجيش السوري ذات خصوصية ، كما تميز بالحزبية الصارمة والطائفية المفرطة ، فالجيش السوري كان بمثابة حزب عسكري .

الفرع الأول : طبيعة تكوين وتشكيل الجيش السوري :

بعد تسلط حزب البعث على الدولة السورية شرع في تكوين وتشكيل الجيش السوري ، بما يلبي متطلبات النظام الحزبي وطموحاته ، في الداخل : حيث لا معارضة أو احتجاج ، وفي الإقليم : حيث ردع الجناح الشرقي للحزب الغريم التاريخي ، وحيث الإيحاء للعرب بأن جيش سوريا هو لتخويف إسرائيل وردعها عن الاعتداء على العرب ، وفي العالم : حيث العزف على وتر نظام الاستقطاب الدولي بين الأعظمين : الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي .

لقد نقل الحزب هيراركيته إلى الجيش ، فغدا الجيش السوري بمثابة حزب عسكري مقاتل ، وكان من شأن هذه الطبيعة في التكوين والتشكيل أن تخلق جيشاً ذا طبيعة خاصة ، لقد بدأت خصوصية تكوين وتشكيل الجيش السوري منذ اختيار عناصره من الموالين للحزب فكراً وتنظيماً وسلوكاً ، ثم في اتباع نفس هيراركية الحزب في صياغة هيراركية الجيش ثم في تدريبه وتسليحه وعقيدته القتالية .

ولم يقتصر ضبط تكوين وتشكيل الجيش السوري على قاعدة الحزبية ، بل أدخلت في وقت لاحق بعد سيطرة آل “النعجة” “الأسد” بعد التعديل على الدولة والحزب والجيش قاعدة أخرى هي قاعدة الطائفة ، والمقصود بالطبع الطائفة العلوية الشيعية ، وأضحت الجندية في الجيش السوري ترتكز على قاعدتين صارمتين هما الولاء المطلق للحزب والطائفة ، وقد يجادل بعض السذج بعدم وجود نصوص محررة تقول بذلك ، وقد قصر فكر هؤلاء البسطاء عن إدراك أن هذه القواعد الصارمة والمضادة لكل القيم والمبادئ والأخلاق لا تُكتب ولا تُنشر ، ولكنها تثبّت في العقول ، وربما في القلوب عبر اجهزة شيطانية تعمل ليل نهار في الجيش والحزب والنظام السياسي والدولة ، وإن كان ثمة نصوص متداولة داخل الحزب والجيش تؤكد على ما هو أدهى وأمر .

الفرع الثاني : تميز الجيش السوري بالحزبية الصارمة والطائفية المفرطة :

لقد أصبح أمراً غير خاف على المتابع أن الجيش السوري هو جيش حزبي طائفي بشكل صارم وبطريقة مفرطة ، وذلك منذ عقد الستينيات من القرن العشرين ، وقد جاهد النظام البعثي من أجل زرع وترسيخ عقيدتي الحزبية والطائفية في قانون الجندية في الجيش السوري ، إلى أنأصبحت أكثر قداسة من أية معتقدات أخرى ، بل أنها صارعت في عقول عناصر الجيش السوري جنود وقيادات المعتقد الإيماني!! وذلك وفق ما أفضي إلي كثير من تلك الجنود والقيادات .

منذ بداية حكمهم وقد خبرت وأتقنت قيادات البعث في سوريا وسائل التعبئة والتحفيز لعناصر الجيش السوري بعقيدة الحزبية ، أما عقيدة الطائفية فقد برع فيها “حافظ الأسد” وابنه من بعده ، ومن أحاط بهما من بطانة وحاشية ، وثمة أربع آليات لتنفيذ عمليتي التعبئة والتحفيز اللتين اتخمت بهما قيادات البعث في سوريا عقول وقلوب عناصر الجيش ، وتحددت تلك الآليات في:

البند الأول :التعبئة والشحن الفكري والمعنوي وهذه الآلية مقتبسة من التجارب البلشيفية والنازية والفاسية في كل من الإتحاد السوفياتي وألمانيا وإيطاليا ، والتجارب الثلاث شبيهة شكلاً وموضوعاً مع تجربة ديكتاتورية الحزب الواحد الشوفيني المتسلط في الدول الثلاث ، وكانت النتائج مؤكدة واعتنق عناصر الجيش السوري عقيدتي الحزبية والطائفية ، وتحققت النتائج بالفعل وكانت باهرة بالنسبة للبعث وجيشه ، حيث لم ينكسر قوام الجيش السوري ولم يتفكك وينحاز للثورة بالشكل الذي يعلن انتصارها وتقويض أركان نظام البعث .

البند الثاني : المحاكاة السلوكية إذ يتم تطبيع سلوكات وأفعال وتصرفات عناصر الجيش السوري جنود وقيادات على تنفيذ وتحقيق المعتقدين اللذين تم استيعابهما واعتناقهما فكرياً بما يتجلى في الولاء المطلق والطاعة العمياء لقيادات الحزب والجيش في وقت واحد .

البند الثالث :الجمع بين قيادات الحزب والجيش ، وهذا يعني التوحد الفكري والسلوكي بين الحزب والجيش ، ويؤكد على ما سبق وأوضحناه من أن الجيش السوري هو جيش حزب البعث الحاكم ، ويؤدي في ذات الوقت إلى إحكام قبضة الحزب على الجيش .

البند الرابع :الإغراءات المادية التي استخدمت كرشوة لعناصر الجيش لكسب وتعميق ولائهم للجيش والحزب ، وقد استخدمت هذه الآلية كثيراً في الدول العربية ، نظراً لتخلف وفشل الأنظمة السياسية وفسادها فهي تضطر لشراء ولاء الجيوش .

قد يعجبك أيضاً

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.