الرئيسية » تحرر الكلام » مفهوم القومية من منظور الليبرالية المصرية

مفهوم القومية من منظور الليبرالية المصرية

لا يمكن تناول مفهوم القومية بمعزل عن الليبرالية، فالليبرالية هي التي وضعت بذور القومية. ولأن هذه الورقة تركز على التجربة الليبرالية المصرية، فإنها ستتناول الليبرالية المصرية ممثلة بفكر أحمد لطفي السيد وكيف مهدت هذه الليبرالية لمفهوم القومية في مصر وكيف تطور مفهوم القومية فيها.

الليبرالية أول ما بدأت في أوروبا ثم انتقلت للعالم أجمع ، وتم تداولها في الفكر العربي في القرن التاسع عشر، خصوصاً بعد الثورة الفرنسية التي كانت تعتبر أول ثورة ليبرالية في التاريخ. وإذا ما أخذنا التجربة الليبرالية المصرية فإن الحملة الفرنسية على مصر بقيادة نابليون بونابرت عام 1798 كانت أهم منفذ لليبرالية في مصر، إلى جانب البعثات الدراسية إلى أوروبا التي ساهمت في غرس الأفكار الغربية.

يستند الإطار المفاهيمي إلى نظرية العقد الاجتماعي لجان جاك روسو باعتبارها أبرز المعالم السياسية لليبرالية فهي تشكل النظرية الأساسية في تكون الدولة، وعلاقتها بالأفراد. والحقوق الأساسية للأفراد. وفصل السلطات باعتباره أهم ضمانات الحرية الفردية. وحدود سلطة المجتمع على الأفراد، وحرية التعبير.

ركز أحمد لطفي السيد على المفهوم الليبرالي للحرية، فنادى بضرورة تمتع الفرد بقدر كبير من الحرية وبغياب رقابة الدولة على المجتمع وشدد على ضرورة أن يكون الحكم قائم على أساس التعاقد الحر بما بين الأفراد والحكام، وأن تحقيق سلطة الأمة هو من أهم الواجبات الوطنية[1].

يرى السيد أن الحكم النيابي الديمقراطي هو أفضل طرائق الحكم، فطالب بالدستور وبشر بحرية الفرد وأنحى على تدخل الحكومة في شؤون الأفراد لأن في ذلك وجه من الاشتراكية التي لا تلاءم الطور الذي كانت تجتازه مصر في ذلك العصر[2]. وفي هذا السياق فإن جان جاك روسو كان قد وضع في العقد الاجتماعي الأسس اللازمة لإقامة ديمقراطية يشارك فيها كافة المواطنين.حيث أن روسو يعتقد أن القوانين يتعيّن عليها أن تعبر عن الإرادة العامة للشعب. وأي نوع من الحكم لا بد أن يكون قائم على مبدأ الإجماع حتى يكتسب الصفة الشرعية[3].

في نفس الوقت نبه السيد إلى أن كل مسؤولية تستدعي لصاحبها سلطة تكافئها، بحيث تكون الحرية الفردية مشترطة بأن لا يكون فيها مضرة للغير.[4] وهذا متطابق لما تناوله روسو في العقد الاجتماعي حيث ميز الواجبات التي يجب على المواطنين أن يقوموا بها كرعايا، من الحقوق الطبيعية التي يجب أن يتمتعوا بها كأناس[5].

أما فيما يخص الدين، فيتضح من موقف السيد نزعته الليبرالية، حيث قال في المؤتمر المصري الذي عقد في 29 أبريل عام 1911 “إن الدين ليس هو الأساس الذي تقوم عليه الأكثرية والأقلية ولكنه المذاهب السياسية… والأمة كائن سياسي يتألف من عناصر سياسية فأي مذهب من المذاهب السياسية اعتنقه أفراد أكثر عدداً وأثرا كان له أكثرية وكان الآخر أقلية وعلى هذا يمكن فهم الأقلية والأكثرية في كل أمة.. وليس للدين دخل في ذلك”. وهذه النظرة للدين تأتي مطابقة لنظرة جان جاك روسو في العقد الاجتماعي التي لا ترى وجود أي صلة للدين بالهيئة السياسية، وأنه يُبقي روابط اجتماعية عديدة بلا عمل[6].

من المعروف أن العقد الاجتماعي اتخذ كأنجيل للثورة الفرنسية، ويظهر مما سبق بأن أحمد لطفي السيد قد تأثر بأفكار العقد الاجتماعي، مما يوصل إلى نتيجة مفادها أن الثورة الفرنسية ومفكريها كان لهم أثر كبير في الفكر السياسي المصري، حيث أن حزب الأمة الليبرالي الذي أسسه أحمد لطفي السيد كان من أول الأحزاب التي نشأت في مصر.

إن الثورة الفرنسية وما حملت من شعارات وأفكار كان لها أثر فكري وثقافي وسياسي لم يقتصر على أوروبا فحسب، بل أن تأثيرها شمل العالم العربي أيضاً، وساهم في نشأة الفكر السياسي العربي الحديث.

كتابات أحمد لطفي السيد تظهر مدى افتتانه بالأفكار الفرنسية الحداثوية، خصوصاً فيما يتعلق بالحرية  والمبادئ التي نادى بها منظرو الثورة الفرنسية، وقد قام أحمد لطفي السيد وآخرون بإقامة جمعية سرية غرضها”تحرير مصر” عام 1896، وحين علم الخديو عباس بها اشترك مع مؤسسيها في تأليف حزب وطني مقاوم للاحتلال البريطاني، وأرسل السيد إلى سويسرا ليعود إلى مصر بعدها لتحرير جريدة تقاوم الاحتلال البريطاني، وكان الخديو عباس يرى في فرنسا الصديق الذي يستطيع أن يؤلب الدول على بريطانيا[7].

يطلق على أحمد لطفي السيد أبو القومية المصرية، فهو أول من نادى بها، أما الظروف والأطر المفاهيمية التي ساعدت السيد على بلورة مفهوم القومية وإبرازها في مصر يمكن إجمالها في النقاط الآتية:

·        العقد الاجتماعي:

أثرت أفكار جان جاك روسو في نمو القومية، فركز في العقد الاجتماعي على أهمية الوحدة الاجتماعية وأنها يجب أن تكون على رأس أي نظام، وبحسب روسو فإن الرابطة الاجتماعية كلما اتسعت ارتخت، ومن هنا فإنه يمكن أن تكون الدولة الصغيرة أقوى من الدولة الكبيرة نسبياً[8]. من خلال مفهوم روسو للوحدة الاجتماعية، يمكن القول أن فكر روسو كان يدعو إلى القومية القطرية، وهي التي ركز عليها أحمد السيد في كتاباته.

·        إقامته في جنيف

توجه أحمد لطفي السيد إلى جنيف/سويسرا عام 1897، كان يتلقى فيها محاضرات في الآداب والفلسفة، وكانت لدراسته هناك أثر كبير في فكره السياسي، فحينما عاد إلى مصر أرسل السيد تقريراً إلى الخديو عباس دون فيه أبحاثه السياسية التي أجراها في جنيف وقال فيها ” أن مصر لا يمكن أن تستقل إلا بجهود أبنائها..”[9] ومن هنا كانت بداية تبلور مفهوم القومية لدى احمد لطفي السيد.

·        الاتفاق الفرنسي – الانجليزي:

في عام 1904 تم توقيع اتفاق بين فرنسا و بريطانيا عُرف باسم الاتفاق الودي يتضمن تسوية الخلافات المتعلقة بالمستعمرات، وخصوصاً مصر و مراكش. حيث اعترفت فرنسا في هذا الاتفاق بالاحتلال البريطاني لمصر مقابل ضمانات تتعلق بديون مصر التي تعود إلى عهد الخديوي إسماعيل[10].

هذا الحدث التاريخي قد مكن قومية أحمد لطفي السيد من شق طريقها في مصر، حيث أن الأمل الذي كان المصريون يعقدونه على فرنسا في المساعدة على زوال الاحتلال قد تبدد وانتهى أمره بعد هذا الإتفاق، ففرنسا اعترفت بالاحتلال الانجليزي لمصر وتركت لبريطانيا حرية التصرف في الشؤون المصرية، الأمر الذي جعل المصريين يتوصلوا إلى قناعة مفادها أن مصر بحاجة أن تعتمد على نفسها في المطالبة بالحرية والاستقلال.

·        الجريدة وحزب الأمة

عام 1907  تم تأسيس “الجريدة” واتخذ السيد منها منبراً  لمناقشة القضايا الاجتماعية والسياسية والثقافية، وطالبت الجريدة بالاستقلال التام عن العثمانيين والوكالة البريطانية، وكان شعارها ” مصر للمصريين ” ، وبعد ظهور صحيفة الجريدة ببضعة شهور تألف “حزب الأمة ” والذي كان منهاجه يقوم على المطالبة بالاستقلال التام والمطالبة بالدستور[11].

إن هذا المنهاج الذي يقوم عليه حزب الأمة تناولته نظرية العقد الاجتماعي في تقسيم القوانين، بأن يكون المواطن كامل الاستقلال عن الآخرين وأن يكون شديد الإتباع للمدينة، بحيث أنه لا يوجد غير قوة الدولة ما يضمن حرية أعضائها، ومن هنا تنشأ القوانين المدنية[12].

حزب الأمة كان يمثل التيار الليبرالي المصري، ويعتمد في فكره على الاقتباس من أساليب التفوق الأوروبي، وهذه الأساليب كانت تركز على القومية القطرية، فأحمد لطفي السيد يرى مثلاً أن الطليان الذين وقعوا تحت حكم النمسا وفرنسا لم يستردوا استقلالهم إلا بتمسكهم بقوميتهم الإيطالية[13]. وهكذا دعا السيد إلى تطبيق نظرية القومية المصرية.

انتهى الحزب بثورة 1919. وبعد الاستقلال ودستور 1923، تحول إلى حزب الأحرار الدستوريين برئاسة عدلي باشا يكن ثم عبد العزيز فهمي باشا ، وانتهى برئاسة الدكتور محمد حسنين هيكل.

يُذكر أن بعد قيام ثورة الضباط الأحرار ونجاحها في الإطاحة بالملك فاروق عام 1954م، عرض جمال عبد الناصر رئاسة مصر على أحمد لطفي السيد، إلا أنه رفض العرض[14]. إضافة إلى ذلك كان الدكتور محمد حسنين هيكل رئيس حزب الأحرار الدستوريين والذي يمثل امتداد لحزب الأمة الليبرالي من المقربين للرئيس جمال عبد الناصر، وكان مفكره وصاغ الفكر السياسي لعبد الناصر في فترة حكمه.

إن هذه الشواهد تدفع باتجاه الافتراض أن الليبرالية المصرية والتي يتزعمها أحمد لطفي السيد أثرت في فكر جمال عبد الناصر. إلا أن الليبرالية المصرية شهدت في عهد حسنين هيكل ثورة فكرية، حيث أن هيكل الذي كان يؤمن بالقومية المصرية التي كانت تنميها الثقافة الفرنسية، تغيرت نظرته بعد الحرب العالمية الأولى، فرأى أن الحرية التي نادت بها الغرب باطلة ولا أساس لها، كما أن حملة التنصير المسيحي التي تعرضت لها مصر عام 1933 جعلت هيكل يتجه نحو النزعة القومية العربية[15].

إن محمد حسنين هيكل أول من أطلق لفظ “الناصرية”، ومن الثورة الفكرية التي قام بها هيكل، يتضح أن القومية العربية التي نادى بها عبد الناصر هي نظرية ساعد محمد حسنين هيكل في صياغتها، أي أن القومية العربية خرجت من أحضان الليبرالية المصرية بغض النظر عن الثورات الفكرية التي مرت بها.

في الختام يمكن القول أن الثقافة الفرنسية والتي أدخلت المفاهيم الليبرالية إلى مصر، أدت إلى تنمية الشعور الوطني والقومي القطري، وأن سياقات تاريخية معينة مثل الحرب العالمية والتنصير المسيحي أدت إلى نشوب ثورة فكرية في داخل أروقة الليبرالية المصرية، الأمر الذي أوصل مصر إلى مرحلة الناصرية.

فادي قدري أبو بكر

[email protected]

المصادر والمراجع:

·        سيد، أحمد لطفي. تأملات في الفلسفة والأدب والسياسة والاجتماع .القاهرة: مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2013.

·        روسو، جان جاك. العقد الاجتماعي أو مبادئ الحقوق السياسية. بيروت: دار التنوير، 2012.

·        سيد، أحمد. أحمد لطفي السيد قصة حياتي. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998.

·        إبراهيم، عبد الله. ” 8 ابريل 1904 الاتفاق الودي بين انجلترا وفرنسا.” صحيفة الأهرام، ابريل.3،2001.

·        قعيد، يوسف. محمد حسنين هيكل يتذكر عبد الناصر والمثقفون والثقافة.القاهرة: دار الشروق، 2003.

·        هيكل، محمد. ثورة الأدب. القاهرة: دار المعارف، 1978.

[1] أحمد لطفي السيد، تأملات في الفلسفة والأدب والسياسة والاجتماع ( القاهرة: مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2013)، 46-48.

[2] نفس المرجع السابق، 89-90.

[3] جان جاك روسو، العقد الاجتماعي أو مبادىء الحقوق السياسية ( بيروت: دار التنوير، 2012)، 90-95.

[4] نفس المرجع السابق، 80-81.

[5] جان جاك روسو، العقد الاجتماعي أو مبادئ الحقوق السياسية ( بيروت: دار التنوير، 2012)، 58.

[6] نفس المرجع السابق ، 163-167.

[7] أحمد لطفي السيد، أحمد لطفي السيد قصة حياتي (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998)، 17-18.

[8] جان جاك روسو، العقد الاجتماعي أو مبادئ الحقوق السياسية ( بيروت: دار التنوير، 2012)، 72.

[9] أحمد لطفي السيد، أحمد لطفي السيد قصة حياتي (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998)، 18-20.

[10] عبد الله إبراهيم، ” 8 ابريل 1904 الاتفاق الودي بين انجلترا وفرنسا،” صحيفة الأهرام، ابريل.3،2001.

[11] أحمد لطفي السيد، أحمد لطفي السيد قصة حياتي (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998)، 24-48.

[12] جان جاك روسو، العقد الاجتماعي أو مبادئ الحقوق السياسية ( بيروت: دار التنوير، 2012)، 78-80.

[13] أحمد لطفي السيد، تأملات في الفلسفة والأدب والسياسة والاجتماع ( القاهرة: مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2013)، 61-62.

[14] يوسف قعيد، محمد حسنين هيكل يتذكر عبد الناصر والمثقفون والثقافة (القاهرة: دار الشروق، 2003)، 229-230.

[15] محمد حسنين هيكل. ثورة الأدب( القاهرة: دار المعارف،1978)، 105-122.

قد يعجبك أيضاً

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.