الرئيسية » تحرر الكلام » الجيوش الوطنية والثورات العربية ـ دراسة منهجية تجريبية موثقة

الجيوش الوطنية والثورات العربية ـ دراسة منهجية تجريبية موثقة

علاقة الجيوش العربية بمجتمعاتها [علاقة المرارة والحسرة] (8)

تحددت علاقة الجيش العربي بالنظام السياسي في شكلين : الأول تبعية أي منهما للآخر ، والثاني التحالف بينهما لتحقيق مصالح قيادات الجيش ، وذلك في حالة غياب الدولة بنموذجها العربي الشاذ ، ومن المهم أن نقف على علاقة الجيوش العربية بمجتمعاتها .

والغريب في الأمر أن المجتمع العربي ليس له أهمية بالنسبة للنظام السياسي العربي ، لأن الغالبية الساحقة من النظم السياسية العربية ليس لها شرعية تستمدها من المجتمع أي الشعب ، فهي مفروضة عليها ولا أهمية لها في إيجاد تلك الأنظمة ولا في استمرارها .

ويمكننا أن نصف علاقة الجيوش العربية بمجتمعاتها بأنها علاقة المرارة والحسرة ، فالمجتمعات العربية تنظر إلى الوضعية المميزة لقيادات الجيوش مادياً ومعنوياً بمرارة وتنظر لأوضاعها المزرية مقارنة بهؤلاء دون مبرر منطقي ومقبول بحسرة وألم ، وفيما يلي تفصيل أشكال هذه العلاقة التي تبدو في ظاهرها سوية ولكنها في جوهرها مختلة وغير متوازنة :

الفرع الأول : الشكل الأول : أبناء المجتمع هم أفراد الجيوش :

الفرد العربي هو قوام الجيش سواء أكان فرداً مقاتلاً أو رتبة عسكرية ، وللجيش تقاليده العريقة في الالتزام والانضباط ، إلا أن الكثير من القيادات العليا في الجيوش العربية تستغل هذه السمات من أجل الإمعان في إذلال أفراد الجيش ومعاملتهم بأسلوب السخرة ومسخ شخصيتهم وتدمير كرامتهم ونفسيتهم ، فالجنود خدم في بيوت ومزارع ومرافق وممتلكات قيادات الجيش .

إن الأفراد المقاتلين في الجيش العربي يعاملون معاملة لا تليق بهم كمواطنين يدافعون عن تراب وطنهم ، ويدفعون عنه التعدي والاعتداء ، مع أنهم هم الذين يتحملون كافة المهام القتالية في كافة الأسلحة ، فإذا أحرزوا النصر فاللقيادات النياشين والأوسمة والترقيات والمكافآت ، وإذا كانت الهزيمة فإن الجنود هم الضحايا ، وهكذا يتحمل أبناء المجتمع النوائب وهم أفراد الجيش ، كما يتحملون المصائب وهم يقاتلون في سبيل الحياة ، وهذا هو أول أشكال العلاقة بين الجيش العربي والمجتمع . 

الفرع الثاني : أقوات المجتمع هي نفقات الجيوش :

الشكل الثاني من أشكال العلاقة بين الجيش العربي والمجتمع هو الشكل المادي ، حيث أن ميزانيات الإنفاق على الجيوش العربية لا تقل عما نسبته 30% من الميزانيات العامة للدولة ، بالرغم من أن ما نسبته 35% من أبناء الشعب العربي يعيشون تحت خط الفقر ، وأن دولاً مثل مصر وتونس واليمن وسوريا والبحرين وليبيا والعراق هي دول فقيرة حسب التوصيف العالمي .

فقيادات الجيش العربي تعيش في بحبوحة بل وفي بزخ ، بالرغم من الفقر والمعاناة التي يعانيها الشعب ، فالجيش لا علاقة له بالضيق والعسر المادي والعجز الذي يرهق ميزانيات الدول العربية الفقيرة ، فهو رمز العنجهية الجوفاء والسيادة الوطنية والكبرياء القومية، وهي المفاهيم التي يستعان بها في إرضاء غرور البسطاء من أبناء المجتمعات العربية المقهورة والمستعبدة ، تلك التي تواسي نفسها في فقدان كرامتها بمثل هذه الأوهام .

إن المواطن العربي الذي ربما لا يملك مسكناً ولا يملك مركباً ولا يملك عملاً يرتزق منه ويحفظ وجوده ويقيم وأده ، مطالب بأن يقدم كل ما يمكن أن يحقق له هذه المستحقات الإنسانية للجيش ، الذي أوهموه بأنه يدافع عنه ويحميه من خطر عدو لا وجود له إلا في خيال رموز النظم السياسية وحلفائهم من قيادات الجيوش .

أليست تلك هي دعوي نظام البعث في سوريا لدعم حماة الديار من أجل تحرير الجولان وتجسيد الممانعة العربية على مدى ما يقرب من نصف قرن من الزمان ، ودعوى الحكم العسكري في مصر منذ انقلاب “عبد الناصر” وتنظيمه السري في 23/7/1952م وحتى بعد انقلاب 3/7/2013م ، ودعوى نظام البعث في عراق “صدام حسين” ، ودعوى نظام “علي صالح” في اليمن ، ودعوى “القذافي” التي زادت الطين بلة وطمحت في استخدام الجيش من أجل وحدة العرب .

مَنْ مِنْ هذه الدول العربية والأخرى غيرها سيحارب إسرائيل ، أو سيحارب أي عدو آخر ، بالطبع لا يوجد أعداء حالّون أو محتملون ، فالعرب صالحوا إسرائيل وهم الآن يضمنون أمنها وهو مطلب عربي استراتيجي تكفله قوى عظمى حليف للطرفين ، ولا يُتوقع أن يصنع العرب أعداءً أو يستعدون دولاً متاخمة مثل تركيا أو إيران أو جنوب السودان أو النيجر أو تشاد .

إذن فأين الأعداء التي تُجيش وتُسلح وتُجهز من أجل مواجهتهم الجيوش ، وتُخرَب بيوت أبناء المجتمعات العربية من أجل الإنفاق على قياداتها ،إنها لا تتعدى الرغبة والإرادة في التميز ، ولا تتجاوز الإصرار على امتطاء أعناق الناس وإذلالهم ، بادعاءات البطولة وبذل النفس من أجل الوطن ، ولا تتخطىالذريعة للحصول على المكاسب المادية الهائلة ، وهي في الأخير لا تفوت المبرر لاستمرار الناس ترزح تحت نير الاستبداد والقمع والحرمان .

لقد حصلت قيادات الجيش العربي على مزايا مادية وعينية مبالغ فيها ، لقد قُدّمت لتلك القيادات الرِشى من داخل الدول العربية لشراء رضائهم وولائهم من قبل النظم السياسية المهترأة ورموزها الفاسدة المتحالفة معها ، بالإضافة إلى تضخيم السطوة والنفوذ لتلك القيادات داخل النظلم السياسي وداخل المجتمع بشكل عام .

وكذلك قُدّمت الرِشى من الخارج في شكل معونات عينية ومادية موجهة للجيش بشكل محدد ومنعزل عن الدولة وأجهزتها ودوائرها ، وذلك من أجل ضمان الولاء والتبعية وكأن الجيش لا علاقة له بالدولة ولكل منهما واقعه الخاص الذي يعيشه ويتفاعل معهه وفق ما يرى .

ناهيك عن البعثات الدراسية المصطنعة ، والجسور الفكرية والثقافية والمعتقدية الممتدة بين الغرب ممثلاً في أميركا وأوروبا ، والشرق ممثلاً في الاتحاد السوفياتي السابق وروسيا الاتحادية وريثه الشرعي والصين وبين تلك القيادات العسكرية ، التي تم تضخيمها وتفخيمها لتكون ألعوبة في أيدي القوى الكبرى ، حتى باتت تطمح في الحكم المباشر في كافة الدول العربية .

إننا لا نرفض تأسيس وتجهيز وتقوية الجيوش العربية ، ولكن في حدود المنطق والمقبول ، وأن تنصرف إلى شأنها الذي حدده لها دستور المجتمع إن وُجد ، وذلك كما هو متعارف عليه في الدول الديمقراطية ، حتى لا تتضخم تلك الجيوش ، وتتضخم نفقاتها ، وتتسلط قياداتها ، وتصبح فوق الدولة ، بل وتعبث قياداتها بأركان الدولة ومقدرات المجتمع ، وتتحول في النهاية إلى عبء ثقيل على المجتمع مادياً ومعنوياً ، ووحش كاسر يلتهم المواطنين عندما لا تجد من تحاربه ، أو عندما يتجرأ المواطنون على انتقاد النظم السياسية .

فالجيش ضرورة لا غنى عنها لكل مجتمع على أن تقدّر تلك الضرورة بحجمها ، وكذلك على أن يؤسس ويُدار الجيش وفق قواعد دستورية متوافقة مع ما تضمنته النطرية السياسية وجرت عليه وعهدته التجارب الإنسانية المعتبرة .

الفرع الثالث : النصر يُنسب لقيادات الجيش والهزائم يتجرع مرارتها أبناء المجتمع:

الشكل الثالث من أشكال العلاقة بين الجيش العربي والمجتمع هو أشد وأقسى أشكال المرارة التي يتجرعها أبناء المجتمع العربي عندما يُنسب النصر المصطنع الذي لم يحققه أي جيش عربي حتى الآن إلى القيادات المدججة بالنياشين والأوسمة على شاكلة “السادات” و”القذافي” و”السيسي” ، ويتفرج أبناء المجتمع العربي على مسرحية هزلية سخيفة أبطالها رموز النظم السياسية وقيادات الجيوش العربية عندما يكرّم بعضهم بعضاً على بطولات لم يسطروها .

أما عند الانتكاسات والنكبات وهي ثرية في سجل الجيوش العربية فلا يتحمل وزرها وآثامها ونتائجها السيئة إلا أبناء المجتمعات العربية وبصفة خاصة المقهورون منهم ، فهم الذين يُقتلون في الصحراء وفي البحر ، وتتفجر بهم الطائرات في الجو ، لأنهم هم الذين يقاتلون ويواجهون العدو ومعه الموت ، أما القيادات فهم دوماً في الخلف ولا تنال منهم نيران العدو .

ومن لم يقاتل ويُقتل من أبناء المجتمع العربي ، يعود إلى حياة القهر والظلم والحرمان مرة أخرى في مجتمع يعيش نصفه تحت حزام الفقر ، وكأن الهوان والضياع يتعقب المواطن العربي في كل مكان وفي كل زمان ، إهانة القيادات العسكرية تحت مبدئي الضبط والربط ، وإهانة الحاجة والعوز في مجتمع يسوده الفقر والجهل والتخلف والقهر تحت حكام يسمونه سوء العذاب وفساد نشروه بأنفسهم وعن طريق بطانتهم .

الفرع الرابع : الجيش العربي لا يتورع عن قتل مواطنيه :

إن ذلك المواطن العربي الذي أعطى كل شيئ ، وتنازل عن كل شيئ ، سيجد نفسه بعد فترة في مواجهة ذلك الجيش ، الذي أصر على أن يحصد منه آخر ما يملك وهو حياته ، سيجد سلاح الجيش الذي اشتراه وأنفق الملايين على قياداته موجهاً إليه ، وبأمر صريح من تلك القيادات ، عندما يحاول أن يعبر عن رأيه في استبداد وفساد النظم السياسية .

إن مواجهة المواطنين المحتجين على تصرفات النظم السياسية بالجيوش المحترفة المقاتلة ، لم تُعرف إلا في العالم المتخلف الذي منه العالم العربي ، وتؤشر إلى كارثة مدمرة تفقد المجتمعات العربية هيبتها ، وتحطم العلاقة بينها وبين الجيوش التي كادت أن تفقد آخر ذرة ثقة فيها .

إن اجتراء الجيش العربي على المواطن إلى حد قتله يعني انتهاك كرامة ذلك المواطن ومن ثم مجتمعه ، إلى درجة أن يصبح الجيش أخطر على الناس من أي عدو محتمل ، ثم يحل الجيش تدريجياً محل العدو ، وئُفاجأ المجتمعات العربية بكراهية أبنائها للجيوش ، ويحدث الصراع المدمر بين الطرفين .

قد يعجبك أيضاً

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.