الرئيسية » تقارير » “وطن” في مسجد الأمّة للخطيب الإدريسي: هكذا كانت الأجواء في “أخطر” مسجد في تونس

“وطن” في مسجد الأمّة للخطيب الإدريسي: هكذا كانت الأجواء في “أخطر” مسجد في تونس

 

“خاص- وطن”- كتب شمس الدين النقاز- مسجد الأمّة والخطيب الإدريسي، كانا محور اهتمام وسائل الإعلام التونسية طيلة الأسبوع الماضي، برامج حواريّة وتقارير إخباريّة وتحقيقات قيل إنّها استقصائيّة عن المسجد وعن إمامه وروّاده، حتّى أنّه يخيّل إليك أنّ من يتحدّثون عنهم يعيشون في مدينة قندهار الأفغانيّة.

 

“تكفيريون يسيطرون على المسجد” و”تحريض على الجهاد” و” تحدّ للدولة” و”منع لغير الملتحين من دخول المسجد” و”عدم السماح لمن يرتدي السراويل من الصلاة فيه”، وغيرها من الأقوال الّتي سمعتها وقرأتها خلال الأسبوع الماضي وطيلة سنوات في مختلف وسائل الإعلام التونسيّة.

 

لم تكتف وسائل الإعلام التونسية بذلك بل حاولت التأثير على متابعيها من خلال إظهار هذا المسجد “صندوقا أسودا” لا يعلم سرّه أحد، فقد قامت إحدى القنوات التلفزيونية في تونس بتمرير تحقيق عن الخطيب الإدريسي ومسجد الأمّة مستخدمة في إنجازه فيديوهات منتشرة على شبكات الإنترنت، لكن ما أثارني ودفعني للقيام بما سأقصّه على قارئي هذا التحقيق هو لقطة فيديو لا تتجاوز بعض الثواني في هذا البرنامج التلفزيوني وهو تصوير واجهة مسجد الأمّة بسرعة جنونيّة وذلك من خلال المرور من أمامه واستعمال كاميرا مخفيّة على ما يبدو وهو ما يوحي للمتابع بحجم الخطر الّذي يمكن أن يصيب من تمّ كشفه يقوم بتصوير المسجد.

 

كانت هذه اللخبطة الإعلاميّة بالإضافة إلى حساسيّة الموضوع وحبّ البحث عن الحقيقة، الدافع الأساسي لكي أقوم بمحاولة استكشاف الحقيقة والقيام بوظيفتي الصحفيّة، وذلك من خلال زيارة مسجد الأمّة الواقع في مدينة سيدي علي بن عون (حوالي 300 كم عن العاصمة) التابعة لمحافظة سيدي بوزيد (وسط غرب) الّتي كانت مهد ثورة 14 من يناير.

 

قبل الذهاب إلى مسجد الأمّة كانت تنتابني مشاعر غريبة تصبّ في مجملها إلى سؤال وحيد، هل أصدّق الإعلام وأكذّب ما سأراه أم العكس؟

 

لم يكن الطريق سهلا ومريحا، بل كان متعبا وخطرا في الوقت نفسه، فالطريق الموصل إلى مدينة سيدي علي بن عون يمرّ حتما بطريق الموت الواصل بين محافظتي سوسة والقيروان وهو الطريق المعروف بكثرة الحوادث الأليمة الّتي راح ضحيّتها عديد القتلى والجرحى، ومن ثمّة يمرّ قاصد “بن عون” بمعتمديّة الشبيكة وجلمة وبئر الحفي وغيرها من المدن.

 

طريق الوصول كان طويلا، فحوالي 4 ساعات استغرقت الوصول، ولعلّ ما زاد طول الطريق ذلك المنظر المخيف للأشجار المنتصبة على اليمين وعلى الشمال والّتي أصابها الجفاف والقحط بسبب قلّة الأمطار حتّى ذبلت أوراقها ودفن بعض رفاقها في التراب.

 

الوصول إلى سيدي علي بن عون

في تمام الساعة منتصف النهار وصلت إلى مدينة سيدي علي بن عون، الّتي رأيت داخلها حركة عاديّة، فالمقاهي مفتوحة ومقوّمات الحياة موجودة وكلّ الإدارات مفتوحة، وما ذكري لهذا إلّا بسبب أنّي ظننت قبل وصولي إلى المدينة يوم الجمعة بأنّه ستكون هناك لجان تأمر الناس بغلق المحلات وترك البيع والذهاب إلى الصلاة، وقد انتابني هذا الشعور بسبب ما قيل عن المدينة طوال أسبوع كامل بل لنقل طوال أشهر عديدة كان فيها الخطيب الإدريسي ومسجد الأمّة موضوعا رئيسيّا ودسما وناجحا إعلاميّا وقد يجلب عديد المستشهرين للقنوات وشهرة لكاتبي المقالات والتحقيقات.

 

سألت أحد رجال المدينة عن طريق الوصول إلى مسجد الأمّة، فدلّني مشكورا عليه لكن قبل أن يدلّني طلب منّي التعريف بنفسي فعرّفته أنّني صحفي أردت زيارة المسجد يوم الجمعة.

 

10 دقائق وأنا أمشي وكلّي شغف وخوف في الوقت نفسه، شغف لاكتشاف الحقيقة لي شخصيّا ولقرّاء صحيفة “وطن”، وخوف من عدم نجاح المهمّة وعدم السماح لي بالدخول إلى المسجد لأنّني أرتدي لباسا “إفرنجيّا” ووسائل الإعلام التونسية قالت إنّه ممنوع في عرف “السّلفيّين الجهاديين” أن يدخل مساجدهم ويصلّي معهم من يرتدي ذلك.

 

وصلت المسجد، فإذا هي حركة عاديّة أمامه، درّاجات ناريّة وأخرى هوائيّة وبعض السيارات، ومصلّون قاصدون الصلاة من الجنسين، فهذا ملتح يرتدي قميصا سعوديّا وآخر غير ملتح يرتدي جبّة تونسيّة وهذه فتاة منتقبة ترافقها متحجّبة.

 

كانت الأجواء خارج المسجد طبيعيّة وعاديّة جدّا، فلا حرّاس أمامه يطلبون بطاقات الهويّة، ولا سلفيّون يتثبّتون في لباس الزائر والمصلّي، وهنا بدأت الحقيقة تتّضح شيئا فشيئا بالنسبة لي، ولكنّي لم أطمئن بعد، فقلت ربّما هي مناورة تعقبها مغامرة أخرى وسط المسجد.

 

داخل مسجد الأمّة

دخلت مسجد الأمّة الواقع في أحد أحياء مدينة سيدي علي بن عون والّذي افتتح في العام 2013، وقد قام ببنائه وتشييده الخطيب الإدريسي على قطعة أرض كانت على ملكه واستغرق بناؤه سنتين بحسب ما قاله لي أحد المصلّين، وكان مكتوبا على واجهته الحجريّة “مسجد الأمّة 11 ربيع الأول 1432″، وكان عدد الحاضريين للإنصات إلى خطبة خطيب الجمعة “أسامة الإدريسي” وهو ابن الخطيب الإدريسي، متوسّطا وذلك قبل حوالي 20 دقيقة من بداية الخطبة.

 

شيب وشباب، كهول وأطفال، ملتحون وغير ملتحين، بل إنّ عدد الملتحين أقلّ بكثير من غير الملتحين، قمصان سعوديّة وجبائب تونسيّة وسراويل إفرنجيّة وأخرى عربيّة، كانت هذه الصورة الحقيقية لما رأيته داخل مسجد الأمّة الّذي يعتبر المسجد الوحيد الخارج عن السيطرة في محافظة سيدي بوزيد وفق ما صرّح بذلك المسؤولون في المدينة.

 

أعناق مشرئبّة تراقب الداخلين والخارجين ومن المؤكّد أنّني كنت من بين المرَاقبين لأنّني غريب عن المدينة، وفي مقابل ذلك عشرات على اليمين وعلى الشمال يقرؤون القرآن وآخرون يصلّون والبعض منهم يسبّحون ويذكرون الله، وعند ذلك رأيت رجلا في أوّل المسجد جالسا وملتفّا ببرنسه ويرتدي عمامة بيضاء، كان جالسا في سكينة وطمأنينة وكان “ضريرا”، فعرفت أنّه الخطيب الإدريسي الّذي تطلق عليه وسائل الإعلام التونسيّة “زعيم السلفيّة الجهاديّة في تونس” ولمزيد التأكد سألت أحد الجالسين فأكّد لي أنّ ذلك الرجل المتربّع والملتفّ في برنصه هو الخطيب الإدريسي شخصيّا.

 

بقيت أراقب ماذا سيحدث في المسجد، فهل يمكن أن يتجرّأ أحد على تصوير الرّجل وإنزال صورة يتيمة له على النت أو يبيعها للصحافة المحلية أو الأجنبية ويريح وسائل الإعلام وخاصّة التونسية منها من نشر صور وهميّة للرجل، أم أنّ الأمور ستكون على ما يرام ويخطب خطيب الجمعة ويعود الناس أدراجهم.

 

مسجد الأمّة والّذي يبدو أنّ سرّ تسميته هي أن يكون مسجدا جامعا للأمّة الإسلاميّة على قبلة واحدة وإمام واحد، كان عاديّا جدّا من الداخل والخارج، فلا إفراط في الزينة الخارجيّة ولا تفريط في الزينة الداخليّة، بل كلّ ما في الأمر، مدخل بسيط وعلى يسار الداخل “ميضأة” صغيرة طولها تقريبا مترين وعرضها 8 أمتار، ثمّ مدخل آخر فيه رفوف لوضع الأحذية من الجهتين وآلة لتبريد المياه وعلى يمينها درج للصعود إلى الطابق الثاني من المسجد، ومن ثمّ يأتي بعد ذلك باب الدخول إلى بهو المسجد المتواضع جدّا، ومن المثير للإنتباه أنّ أغلب المساجد الّتي رأيتها في طريقي قبل وصولي إلى مدينة سيدي علي بن عون كانت متواضعة بل بعضها في حالة معماريّة يرثى لها.

 

داخل المسجد كانت هناك زربيّة خضراء مفروشة على مساحة مئات الأمتار المربّعة ومنبر لونه “عسليّ” صنع من الخشب وذو 3 درجات، ولا يتجاوز طوله المترين وعرضه النصف متر، حذوه مباشرة لوحة إلكترونية فيها أوقات الصلاة والوقت المحلّي الّذي كان يشير إلى الساعة 12.30 دقيقة، كما كانت رائحة المسجد الّذي بدأ في الإمتلاء مميّزة بالبخور والعنبر، بالإضافة إلى الرؤية الواضحة داخله وذلك لأنّه مرتكز على 3 أعمدة رئيسيّة فقط.

 

مع دخول الدقيقة الثانية بعد الثلاثين “12.32”، دخل شاب ثلاثينيّ يلبس قميصا “أشقر” اللون لا هو بالطويل ولا بالقصير، قاصدا المنبر مباشرة والأعين تتابعه والأعناق مشرئبّة نحوه، فعرفت أنّه الإمام الخطيب “أسامة الإدريسي” الّذي تصدّر مواضيع وسائل الإعلام التونسية قبل أسبوعين واتهم بالتحريض والتكفير والتفسيق والدعوة إلى الجهاد.

 

في بادئ الأمر جال في ذهني أنّ خطيب الجمعة سيدخل المسجد تحت حراسة “سلفيّة” مشدّدة،ّ وذلك لأنّ الرواية المتداولة في الإعلام وأنكرتها الحقيقة مفاده أنّ الخطيب الإدريسي وولده عندهما حراسة خاصّة من قبل أنصارهما لكن الواقع غير ذلك.

 

ظللت أرقب الإمام حتّى صعد على المنبر الخشبي، فسلّم على الناس الّذين امتلأ بهم الطابق الأرضي وعلى ما يبدو كان العشرات منهم أيضا متواجدين في الطابق العلوي، ثمّ جلس ليفسح المجال أمام المؤذّن لكي يُعلم الناس بدخول وقت صلاة الجمعة.

 

كان الآذان عاديّا رغم أنّه كانت لديّ أفكار مسبقة مفادها أنّ الآذان “السّلفي” في مسجد الأمّة سيكون مختلفا، لأنّني أذكر أنّي سمعت بعض الدعاة في تونس يقولون إنّ “الوهابيين” يختلف آذانهم عن آذان “المالكيّين”.

 

انتظر أسامة انتهاء الآذن ثمّ صعد المنبر فبدأ بخطبة “الحاجّة” وحمد الله وأثنى عليه، فانتظرت أن يعقب هذا الثناء بهجوم لاذع على وسائل الإعلام الّتي استهدفته واستهدفت والده بل وصل الأمر ببعضهم للتحريض عليهم والدعوة إلى اعتقالهم لتخليص تونس من الإرهاب، وكأنّ الأمن والقضاء ينتظرون إشارة من هؤلاء للقيام بشغلهم والحفاظ على أمن البلاد والعباد، لكن كانت المفاجئة الكبرى.

 

المفاجئة الكبرى

فبعد أن أنهى خطبة الحاجة، قال أسامة الإدريسي وهو يقرأ من ورقة صغيرة يبدو من طريقة نظره إليها أنّها موضوع الخطبة،”يا أيها الناس إني أوصيكم بالصدق وتجنّب الكذب” ثمّ ذكر جملة من الآيات القرآنيّة والأحاديث النبويّة الّتي توصي بذلك من بينها حديث الحوار الّذي دار بين هرقل عظيم الروم وأبي سفيان قبل أن يسلم، والّذي قال فيه أبو سفيان إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عرف بالصدق في قريش من قبل أن يكون رسولا.

 

وأضاف بعد ذلك أسامة قائلا “إنّ هذه كذبة أفريل (أبريل) عادة دخيلة على المسلمين وكم تسبّبت هذه العادة في إلحاق أذى بالغير” وذكر بعض القصص الواقعيّة للتدليل على ذلك.

 

انتهت الخطبة الأولى وجلس الإمام بين الخطبتين كما هي العادة المجمع عليها بين مختلف المذاهب الفقهيّة، رغم أنّني انتظرت أن لا يجلس وأن يقوم بوصل الخطبتين ببعضهما، وذلك لكثرة ما سمعت من قبل المناوئين له ولوالده أنّ لهما إسلام خاصّ بهما.

 

جلس أسامة حوالي نصف دقيقة، ثمّ قام فحمد الله وشكره وأثنى عليه من جديد، فانتظرت أن تكون الخطبة الثانية ناريّة ويتمّ فيها مهاجمة الأحزاب أو التدخل في الشؤون السياسية للدّولة ولحلفائها، ولكنّ أسامة لم يشر إلى ذلك بتاتا وكلّ ما في الأمر أنّه أكّد على أنّ العرب يمتازون بالصدق وأنّ الصحابي أبو بكر وصف بالصدّيق لأنّه كان صدّيقا ولم يعهد عنه إلّا الصدق.

 

بعد ذلك ختم أسامة الخطبة متوجّها بالدعاء، فسأل الله عزّ وجلّ أن ينزل على المنطقة الغيث النافع وأن يجنّب المسلمين الكذب… ثمّ قام فصلّى صلاة الجمعة ركعتين لا هما بالطويلتين ولا بالقصيرتين، ثمّ جلس للتشهّد وسلّم على يمينه وعلى شماله، ثمّ قام منصرفا مع الناس بدون أيّ حراسة وبدون أيّ مشاكل بل اصطحب والده “الضّرير” إلى منزلهم الخاصّ والمحاذي للمسجد والّذي كان هو الآخر متواضعا.

 

هكذا انتهت خطبة أسامة الخطيب الإدريسي بلا مشاكل وبلا عراك وبلا تحريض وتفسيق وتكفير وتبديع، بل كانت خطبة متّزنة ما تكلّم فيها الرّجل إلّا بالدليل ولم يشر أو يلمّح إلى السياسة والسياسيين ولو بكلمة، فظننت أنّ الأمر كان استثنائيّا هذه المرّة وذلك بعد الحملة الّتي شنّتها عليهم وسائل الإعلام، لكنّ هذا الشكّ سرعان ما أزاله سؤال عامّة المصلّين الّذين لا لحية لهم عن حقيقة تحريض إمام الجمعة ومسجد الأمّة بصفة عامّة على العنف وعلى تحدّ الدولة.

 

فسألت أحد الكهول المغادرين المسجد عن حقيقة ذلك فأكّد لي أنّ مضامين الخطب في مسجد الأمّة لم تتغيّر منذ أن افتتح عام 2013، وأنّها كانت كلّها في موضوع الرقائق والزّهد وإصلاح النفوس وتهذيبها، معربا في الوقت نفسه عن استيائه من الحملة الّتي تتعرّض لها مدينته من قبل وسائل الإعلام بأنها حاضنة للإرهاب وللتطرّف.

 

كذلك جزم شيخ ستّيني قال إنّه ابن البلد ويصلّي في المسجد منذ قرابة 3 سنوات لـ”وطن” بأنّ خطب أسامة كانت كلّها تصبّ في خانة واحدة وهي إصلاح النفوس وتحسين العلاقات بين أبناء البلد الواحد وتصفية قلوبهم على بعضهم البعض، مضيفا أنّه لم ير أيّ تطرّف أو تحريض أو دعوة إلى العنف في خطب مسجد الأمّة، نافيا في الوقت نفسه أن يكون هناك دروس في المسجد أصلا لأنّها توقّفت حسب محدّثنا منذ قرابة العامين.

 

بعد ذلك قفلت عائدا إلى مسقط رأسي، وهكذا انتهت زيارتنا لمسجد الأمّة الّذي يؤمّه أسامة الخطيب الإدريسي، حاولت فيه “وطن” نقل الحقيقة ولا شيء إلّا الحقيقة الّتي رأتها ولم تزد على ذلك ولم تنقص، ومن المنصف لوسائل الإعلام التونسية والأجنبيّة الأخرى أن تبعث مراسليها وصحفييها على عين المكان لتقصّي الحقائق لا أن تستخدمهم في خدمة صراعات أيديولوجيّة أو حزبيّة تريد أن تغطّي عن التونسيين الحقيقة الّتي يرفض البعض كشفها ويكرهها وربّما يتابع ويدعو كاشفها إلى التحقيق بتهمة تبييض الإرهاب.

قد يعجبك أيضاً

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.