الرئيسية » تحرر الكلام » الجيوش الوطنية والثورات العربية دراسة منهجية تجريبية موثقة

الجيوش الوطنية والثورات العربية دراسة منهجية تجريبية موثقة

تابع خصائص الجيوش العربية (5)
المعارك والخبرة القتالية
صراعات بين أطراف عربية :
النوعية الثانية من الصراعات هي صراعات أو نزاعات متعددة الأسباب أغلبها على الحدود المشتركة بين أطراف عربية ، وسوف نلقي نظرة سريعة على أهم تلك النزاعات فيما يلي :
1 :النزاع بين الجزائر ومراكش :النزاع بين الجزائر ومراكش فيما يتعلق بإقليم الصحراء هو نزاع طويل وممتد وأدى إلى سوء العلاقات بشكل شبه مستديم بين الجارتين العربيتين المسلمتين ، وتطور هذا النزاع إلى حد الاشتباكات المسلحة ، تعددت الوساطات التي بذلت مساعيها من أجل تسوية النزاع ، كما أدرجت جامعة الدول العربية النزاع في جدول أعمالها مراراً ولكنه لم ينته بعد ، ومن المفارقات أن الدولتين عضوان في الاتحاد المغاربي وجامعة الدول العربية ومنظمة الوحدة الأفريقية ثم الاتحاد الأفريقي ورابطة الدول الناطقة بالفرنسية [الفرانكفونية] ومنظمة الأمم المتحدة ، ناهيك عن منظمة التعاون الإسلامي ورابطة الدول الإسلامية !
2:نزاعات الحدود بين دول شبه الجزيرة العربية :ثارت في شبه الجزيرة العربية عدة نزاعات حول الحدود المشتركة بين الوحدات السياسية في هذه المنطقة ، وبالرغم من قدمها إلا أنها كانت تتطور من وقت لآخر ، وتصل إلى حد المناوشات والاشتباكات المسلحة ، وقد تم استيعاب العديد من تلك النزاعات بفعل الجهود السياسية والدبلوماسية التي بُذلت من خلال مجلس التعاون لدول الخليج العربية .
3:الاستيلاء العراقي على دولة الكويت : في سابقة هي الأولى من نوعها في التاريخ المعاصر فيما بعد الحرب العالمية الثانية تقوم دولة بالاستيلاء على دولة أخرى وابتلاعها وتحويلها إلى إحدى محافظاتها ، تلك كانت واقعة استيلاء العراق على الكويت ، والتي درج على تسميتها بأزمة الخليج الثانية ، على اعتبار أن الحرب بين العراق وإيران كانت هي الأزمة الأولى ، وتمييزاً للاثنتين عن الطامة التي سترد فيما بعد ، وبالرغم مما ورد من اجتهادات وتحليلات حول هذه الواقعة ، للبحث في أسبابها ودوافعها الحقيقية ، وللكشف عن الفاعلين الحقيقيين لمجرياتها ، وللتوصل إلى المقصد النهائي من ورائها ، إلا أننا لازلنا نطمح في أن نسمع إلى كل ذلك من البطل المطلق لهذه المسرحية، وهو الرئيس العراقي “صدام حسين” !! فهو وأمثاله من حكام العرب مدينون للبشرية بما ارتكبوه في حقها ممثلة في الشعب العراقي والشعوب العربية ، ومدينون للتاريخ بما سطروه في صفحاته من بشاعة وهوان ، أما عن العروبة والإسلام فلا يدينون لهما بشيء لأنهما منهم بريئان .
إن النتائج الملموسة والمعاشة لاستيلاء العراق على الكويت قد قصمت ظهر العروبة التي يحلو للكثيرين التغني بها والذوبان في هواها ، كما أصابت الإسلام في مقتل ، لقد نال العروبة والإسلام أذىً كثيراً من المحسوبين عليهما والمنتسبين إليهما ، ولا نملك إلا أن نوكل للزمن مهمة تضميد الجراح وتفعيل خاصية النسيان ، ولكن ذاكرة الأمة أقوى من النسيان ! .
البند الثاني : الصراعات الدولية :نقصد بالصراعات الدولية في هذا التحليل تلك الصراعات التي يكون أحد أطرافها قوة كبرى ، والطرف الآخر دولة عربية ، ولدينا في هذا الخصوص حالتان نتناولهما في الآتي :
أ : الاعتداء الإنجليزي الفرنسي على مصر في عام 1956 م :كان المعترك الدولي خلال الخمسينيات من القرن المنصرم مشحوناً بالانفعالات والتوترات الإقليمية والعالمية ، فأوربا الجريحة كانت لا تزال تلعق جراحها ، ولم تبرأ بعد من الهزال الذي أصابها على أثر دمار الحرب العالمية الثانية ، والذي كان دواء مشروع مارشال لم يؤت مفعوله الشافي إزاءه بعد .
كما أن القوى الأوربية صاحبة الهيمنة القديمة قد فقدت كثيراً من هيمنتها عندما ذاقت مرارة الانكسار والدمار ، وأفلتت من قبضتها كثير من توابعها الآنفة ، فهي في حاجة إلى إعادة الهيبة وتأكيد السيطرة كقوى دولية ذات ثقل في النظام الدولي الذي كانت معالمه قد بانت في الأفق ، وتنبئ بأن حظ بريطانيا وفرنسا سيكون فيه قليلاً .
هذا في الوقت الذي كانت التوابع قد حصلت على استقلالها رغم أنف الدولتين الأوربيتين ، وكانت مصر من أهم التوابع التي استقلت ، ولم تكتف بذلك بل راحت في تحدٍ سافر تمعن في الكيد لبريطانيا وفرنسا ، فأعلنت عن مساندتها اللامحدودة للقوى المناضلة من أجل التحرر من السيطرة الأوربية في كل أنحاء العالم ، كما أخذت تباهي بصداقتها السياسية والاقتصادية والعسكرية وحتى الأيديولوجية للاتحاد السوفياتي العملاق القادم إلى النظام الدولي العالمي بخطى ثابتـة وتصميم أكيد على اقتسام زعامة العالم .
واستغلت مصر بقيادة ناصر هذه الظروف الموائمة ، وأعلنت عن تأميم شركة قناة السويس ، وعلى أثر هذا الأجراء الظاهري انجرفت بريطانيا وفرنسا في تصرف أحمق إلى الاعتداء على مصر ، وجاءت نتائج ذلك على عكس حسابات المعتدين ، ولمصلحة مصر وقيادتها ، التي لم تكن تتوقع أن تجني مثل هذا الثراء من التأييد والسمعة الدولية ، فقد أدان العالم أجمع العدوان حتى الولايات المتحدة ، وتحولت الإدانة الصاخبة إلى تأييد مدوي لمصر وقيادتها ، وزادت مكانة مصر الإقليمية والعالمية ، وعلا صوتها في المحافل الدولية إلى جانب قوى التحرر الوطني ، وتعمقت الصداقة المصرية السوفياتية ، وبدأت تأخذ أشكالاً رسمية ، حيث وقعت اتفاقية الصداقة والتعاون المصرية السوفياتية ، وهكذا جلب العدوان خيبة أمل للمعتدي وتعاطفاً مع الضحية ! .
ب : الاحتلال الأمريكي للعراق 2003م :اللمحة الثانية التي جاءت على وتيرة اللمحة الأولى مع الاختلاف في التفاصيل والدقائق هي الحرب الأمريكية على العراق واحتلال أراضيه وإسقاط النظام السياسي ، وهذه الواقعة كذلك تتداخل تفاصيلها ودقائقها ، إلا أن أهم ما في تلك التفاصيل هو أن الولايات المتحدة الأمريكية ومن خلال استرايتجيتها العالمية الطموحة والعاتية ، ترسخت لديها قناعة بأن العراق يشكل منذ بداية الثمانينيات من القرن المنصرم أحد عوامل عدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط ، مما يقلق تلك الاستراتيجية ، فكان القرار بالقضاء عليه ، ولكن بالطريقة الأمريكية التي تهيئ الأجواء وتحرك الوقائع والأحداث في اتجاه ما يحقق أهدافها ، ولا بأس من التدخل المباشر إذا اقتضى الأمر ، وهذا ما تم مع العراق بنظامه الرهيب.
على شاكلة غيره من النظم السياسية في العالم العربي ، كان النظام السياسي العراقي نظاماً ديكتاتورياً مرعباً ، يرتكز على القمع والكبت ، انتزع من الشعب العراقي كرامته دون رحمة ، وسلب آدميتــه بمنتهى القسوة ، ولم يكن الشعب العراقي يمثل لنظامه السياسي أية قيمة أو معنى ، وعندما فرغ من تحويل الشعب إلى مسخ لا وزن له ولا اعتبار ، تحول إلى النظام الإقليمي ، حيث مارس نوعاً من البلطجة الدولية متدرعاً بقوته التي جند لها أبناء الشعب العراقي جبراً ، وسلّط بعضهم على بعض في أسلوب بوليسي مخيف ، يقوده حزب متسلط على العقول والرقاب ، انجرف إلى حرب طويلة ومرهقة مع الجارة المسلمة ، التي تشبثت بسياسة شرطي الخليج التي اعتنقتها الإمبراطورية الإيرانية المبادة .
ولم يكن العراق قد فرغ من إحصاء عدد قتلاه وجرحاه ومفقوديه ومشوهيه في الحرب مع إيران ، حتى أنساق إلى مغامرة خرقاء زينتها له السياسة الأمريكية في إحكـام وإبداع ، ليستولي على دولة الكويت ، ويعلنها المحافظة رقم 19 ، ومنذ دحر الجيش العراقي في الكويت في واقعة أم المهالك التي قادها “صدام حسين” والاستراتيجية الأمريكية قد بدأت العد التنازلي للإجهاز النهائي على النظام في العراق ، وكانت تلك الاستراتيجية قد اختارت أسلوب العمل الجماعي في العراق تحت شعار ما يسمى “بالشرعية الدولية” ، فاخترعت ذريعة أسلحة الدمار الشامل والأسلحة الكيماوية ، وسُيّرت فرق التفتيش الدولية في فاصل مسرحي سخيف ، وعندما أيقن الأمريكيون أن العد التنازلي قد أقترب من الرمز صفر ، أعلنوا عن عزمهم على استخدام القوة ، ووجهوا الدعوة للحلفاء والأصدقاء للسير معهم في ” قافلة التأديب وحماية القيم على طريقة رعاة البقر ” الميممة شطر العراق الضحية الساذجة ، التي لم تكن تعلم يقيناً بأن الأمور جادة ولا تحتمل المزاح .
ولم يجد الأمريكيون من تحمس لمشروعهم الدموي المدمر سوى التابع الوفي بريطانيا العظمى ، وبعض الذين أعلنوا على استحياء تأييدهم للعنجهية الأمريكيـة لمآرب تُرتجي ، وأقدم الأمريكيون ومعهم الإنجليز على غزو العراق ، وقبل انقضاء شهر على بداية الحملة العسكرية وفي مشهد أيضاً دراماتيكي ، ولكنه لا يخلو من غموض الأفلام البوليسية ، تحلل وذاب النظام العراقي وجيشه العظيم ، وباتت العراق دولة ينقصها النظام السياسي وحماة الديار ، ومن عجيب المفارقات أن الأمريكيين يعكفون في جدية وحزم على هندسة وتصميم النظام السياسي في العراق وفق أنظمة الشركات الأمريكية العملاقة في مجال الحاسب الآلي ، إلا أن مآل نظامهم المصطنع سيكون الفشل الذريع لأنهم استبدلوا طائفة بطائفة ومذهب بمذهب ، وهذه الأفكار الخرقاء والسلوكات البئيسة لن تحقق طموحات الشعوب العربية الحالمة بالكرامة والحرية ، وبناء أوطان مرتكزاتها قيم الحرية والعدالة والمساواة ، ومبادئ الديمقراطية والمواطنة ، والسماحة والسلام الاجتماعي ، ولم يكن أمام الشعب العراقي من بد سوى اللحاق بركب ثورة الكرامة العربية .
لقد حاولنا إجمال الأحداث وفذلكة الوقائع والتفاصيل والتحليلات في تلك السطور المقتضبة لننصرف سريعاً إلى ما هو أهم ، فقد انتهى الأمر بالعراق إلى الوقوع في قبضة الاحتلال الأمريكي ، الذي لا يمكن لأحد أساطين اللغة وجهابذة الكلام أن يجد له لفظة أخرى غير ذلك ، وعلينا الآن أن نكيف هذا الحدث مع الإدراك والوعي الموضوعي المنهجي .
إن ما حدث يشكل خطورة بالغة على كل دول العالم وعلى نسق توزيع القوة بين الكبار ، فلقد استباحت الولايات المتحدة التدخل المنفرد في شئون الآخرين ، ونصبت من نفسها حكماً وجلاداً في آن واحد ، وأعرب العالم العربي عن عجزه وإفلاسه عن تقويم النظم السياسية في الدول المنسوبة إليه ، وصار ينتظر تقويمها بالقوة عن طريق التدخل الأجنبي الذي أوشك أن يصبح سلوكاً نمطياً في العلاقات الدولية ، وبصفة خاصة بعد التدخل الدولي في ليبيا لنصرة الثورة والقضاء على “القذافي” .
بالرغم من فظائع النظام العراقي ، ومن استكانة الشعب العراقي لدعاوى الاحتلال القائلة بسمو الهدف من التدخل ، الذي حدده الأمريكيون في تخليص الشعب من النظام المستبد ، إلا أن الغزو الأمريكي والاحتلال والتواجد فوق التراب العراقي قد أستنفر مشاعر العـــالم والعرب منه خاصة ، ولو أن ثمة همساً يتردد بين العرب ، بما مفاده أن الأنظمة السياسية في العالم العربي قد أنتابتها حالة من الرعب على وجودها الذي بات مهدداً ،وشرعت في تزيين نفسها وتحسين واقعها !.
يضاف إلى ما تقدم أن التدخل الأمريكي واحتلال العراق ربما يثير مسألة ذات حساسية ، وهي أن ذلك يمثل مقدمة لتصادم عنيف ومدمر بين التعبيرات النظامية للأديان ، أي بين الدول الإسلامية والدول المسيحية ، وعليه فالدعوة للجهاد التي أطلقتها جهات ذات اعتبار ورمزية لدى المسلمين مثل الأزهر في مصر ، والفتاوى التي صدرت عن رجال الدين في كثير من الدول الإسلامية ، وتجيز محاربة التدخل الأجنبي في العراق ، تعد ذات دلالة في هذا السياق ، وتمثل ضغوطاً على الحكومات والأنظمة للتحرك في اتجاه الصدام ولو إرضاءً للرأي العام .
وبالعودة إلى الجذور الغائرة للواقع المتردي في العالم العربي ، والذي يعد ما حدث في العراق جزءً منه ، لأمكننا القول أنه لو تم العمل وفق مفردات الحكم الرشيد فكراً ونظاماً ، منهجاً وحركةً ، لما أمكن لأية قوي خارجية أن تتدخل في شئون دولة عربيةتحت أي شعار ، لأنها ستفتقد الحجة والذريعة التي ستتدخل تحت ستارها ، وستجد وقفة واحدة قوية وثابتة من دول يسودها حكم رشيد ، وشعوب تملك أوطانها وزمام أمرها ، وتشعر بأنها تعيش في عزة وكرامة كما أراد لها خالقها .

قد يعجبك أيضاً

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.