الجيوش الوطنية والثورات العربية دراسة منهجية تجريبية موثقة
تابع خصائص الجيوش العربية (4)
المعارك والخبرة القتالية
الحديث عن المعارك التي خاضتها جيوش الدول العربية والخبرات التي اكتسبتها من تلك المعارك حديث ذو شجون ، ويعود بنا إلى استرجاع مآسي وأوجاع فترة التفكك والانهيار، الذي يُعتبر الواقع العربي المعاصر امتداداً لها ، ولقد شهد هذا الامتداد الجغرافي العظيم والكتلة القارية الممتدة دون انقطاع من المحيط الأطلنطي غرباً حتى الخليج العربي في الشرق ، ومن أواسط أسيا وسواحل البحر المتوسط الجنوبية شمالاً حتى المحيط الهندي وأواسط أفريقيا جنوباً .
لقد شهدت هذه المساحة الأرضية الضخمة في الفترة منذ بداية النصف الثاني من القرن العشرين وحتى نهاية العقد الأول من القرن الواحد والعشرين صراعات انتهت بحروب مدمرة ، وتنوعت هذه الصراعات بين صراعات إقليمية أطرافها دول عربية وأخرى غير عربية ، وبين صراعات عالمية أطرافها دول عربية وأخرى عالمية ، ومن خلال نظرة عابرة على خارطة الصراعات في منطقة العالم العربي يمكننـا رصــد ما يلي :
الصراعات الإقليمية
الصراعات الإقليمية عبارة عن نزاعات بين دول داخل النطاق القاري العربي ، أو بين دول من داخل ذلك النطاق وأخرى غير عربية متماسة معها ، وتوزعت على النحو التالي :
صراعات إقليمية بين دول عربية وأخرى غير عربية : السمة الأساسية لهذه النوعية من الصراعات ، أنها نشبت بين دول عربية ودول غير عربية متاخمة لها ومتماسة معها ، وهي في معظمها نزاعات حدود ومناطق نفوذ يغلب عليها الطابع التاريخي المزمن ، وذلك باستثناء الصراع العربي الإسرائيلي ، فهو ذو أبعاد مركبة ومتداخلة قومية ودينية وسياسية وزادته تعقيداً تدخلات القوى العالمية :
1 :الصراع العربي الإسرائيلي :من أقدم الصراعات في صميم العالم العربي وأشدها حدة وشراسة ، بدأ بجهود مكثفة من القوى الأوربية المسيطرة على النظام الدولي ودول العالم العربي في أواخر أربعينيات القرن العشرين ومعهم الصهيونية العالمية ، لإقامة إسرائيل ككيان نظامي وتعبير عن الوجود السياسي لمشروع القومية العبرية ، الذي شُرع في تنفيذه منذ مؤتمر بازل في فلسطين ، وقد قوبلت هذه الجهود المحمومة بمجابهة إسلامية واهنة قادتها تركية وإمبراطوريتها التي كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة ، ومقاومة عربية ركيكة من حكومات تخضع للسيطرة الأوربية ومنكفئة على تداعياتها وصراعاتها من أجل الانعتاق ، ومن شعوب غارقة في الجهل ونير الاحتلال ، وكانت موازين القوى راجحة لمصلحة الحركة الصهيونية التي كانت تعمل بدأب وتخطيط محكم مدعومة بقوى عالمية صاعدة هي الولايات المتحدة الأمريكية ، التي كانت تأمل في أن يضيف إليها هذا المشروع الصهيوني مرونة في المعترك الدولي ، وبالذات في مجابهة القوة الصاعدة الأخرى المتمثلة في الاتحاد السوفياتي ، الذي بدا أنه سيأخذ جانب الطرف العربي في الصراع .
انتهت الجولة الأولى من الصراع العربي الصهيوني بإقامة دولة إسرائيل ، وتوالت بعد ذلك جولاته بتصادم متكرر بين الإرادتين العربية والإسرائيلية ، وقد بدأ العرب برفض مطلق لوجود إسرائيل فكرةً ونظاماً ، ومع مرور الزمــن ، وتضاؤل الجهد العربي ، وغياب الدعم الإسلامي ، في مقابل تزايد قوة إسرائيل مادياً ومعنوياً ، وتفوق الدعم الأمريكي على أي دعم دولي قُدّم للعرب ، أفاق العرب من حلم تدمير إسرائيل وإنهاء وجودها على واقع مرير ، حاولوا التكيف مع تداعياته ، وقبلوا بل رحبوا بوجود إسرائيل مقابل موافقتها على مشروع التقسيم في عام 1947 ، ولما خابت آمالهم أخذوا يتعلقون ولو بقشة ، موطئ قدم لإقامة دولة فلسطين ، وباتت إسرائيل هي التي ترفض الوجود العربي في فلسطين ، وكم في الأيـام من عـبر !! .
إن معضلة إسرائيل أنها لا تبحث عن الوجود فقط ، بل تبحث عن وجود سرطاني مدمر، يترسخ ويتوسع على حساب إنهاء وجود الآخر وإفنائه ، ولو عبر وسائل وأدوات تعمل ببطء وبشكل غير مباشر ، ولعل في الحدود الآمنة والسلام العبري ومشروع الشرق الأوسط الدلالة على ما تقدم والعبرة لمن يعتبر ! .
2:النزاع بين الصومال وإثيوبيا :كانت منطقة القرن الأفريقي موضع نزاع تطور إلى حرب مدمرة بين الصومال وإثيوبيا حول إقليم الأوجادين خلال عقد السبعينيات من القرن العشرين ، وانتهت تلك الحرب بتفكك النظام الصومالي وانهيار السلطة وقيام فرق سياسية متناحرة ، ولا يزال هذا البلد الفقير يعاني من أهوال الحرب الأهلية الطاحنة ، إضافةً إلى التخلف الذي يعيشه سكانه منذ استقلاله عن إيطاليا في الستينيات من القرن المنصرم .
3:النزاع بين ليبيا وتشاد :منذ إنقلابها العسكري على غرار مصر في سبتمبر من عام 1969 وليبيا تسعى إلى صياغة سياسة خارجية نشطة وفعّاله ، وكان للعلاقات المصرية الليبية في العهد الناصري وللعلاقات الشخصية الحميمة بين ناصر والقذافي دورها المؤثر في أن تحدد القيادة الليبية لنفسها مسارات حركة تنطلق من توجهات راسخة ، تمثلت في استكمال دور مصر الناصرية في مساندة قوى التحرر الوطني ومناهضة السيطرة الأجنبية التي كان يحلو لزعيم ليبيا في عنفوان ثورته أن يسميهــا “الإمبريالية” كما كان “عبد الناصر” قد ابتكر لها سمة “الاستعمار” ، واختطت ليبيا لنفسها طريقاً ثالثاً لا غربي ولا شرقي ، طريقاً للحياة ، عقيدة شاملة للاقتصاد والسياسة والاجتماع وكل ما يتعلق بنشاط الإنسان حتى الفكر والثقافة ، وضمنها كتابه الأخضر ، وأُطلق عليها النظرية العالمية الثالثة ، وأصبحت ليبيا مثلها مثل كل من الولايات المتحـدة والكتلة الغربية ، والاتحاد السوفياتي والكتلة الشيوعية ، تمتلك أيديولوجيا تعمل على الترويج لها إقليمياً وعالمياً.
ولا يعنينا إلا المستوى الإقليمي الذي جعل ليبيا تصطدم بجميع جيرانها عندما تعمل على التبشير بالنظرية الجديدة وتدعو لها ، وترتبط ليبيا بجيرانها عبر علاقات وطيدة تتدخـل فيها بشكل قوى العوامل الديموجرافية ، حيث تمتد التشعبات والتكوينات البشرية عبر كافة حدودها مع الدول المجاورة لها ، ناهيك عن الهجرات التي خرجت من ليبيا تاركةً إياها للاحتلال الإيطالي الدموي والفقر والقحط ، وقاصدةً دول الجوار في مصر وتونس والسودان وتشاد ، وعاش ليبيو الأصل في تلك الدول ، وأصبحوا جزءاً من نسيجها الاجتماعي ، وعندما تبدلت الأحوال ، وأكُتشف النفط في ليبيا ، واتجه الاقتصاد الليبي نحو الإنماء والإحداث عقب انقلاب سبتمبر ، تحركت مشاعر الليبيين في المهجر نحو وطنهم ، بدافع الحنين من ناحية ، وبدافع الرغبة في الحصول على حقهم في الثروة المستجدة من ناحية أخرى ، تلك الثروة التي سال لها لعابهم بالرغم من أنهم آثروا الفرار على التمسك بالوطن ومكابدة حياة الفقر والتخلف ومقاومة الاحتلال ،إلا أن العودة من المهجر ظلت وصمة يندى لها جبين العائدين دوماً !.
وكانت تشاد من الدول التي قصدتها مجموعات كبيرة من سكان جنوب ليبيا ، عندما اشتد الاحتلال الإيطالي قسوة وشراسة ، وتوغل نحو الجنوب في الكفرة وسبها ، إضافةً إلى وعورة تلك المناطق وجدبها ، وسعت ليبيا في النصف الأول من الثمانينيات من القرن المنصرم إلى تغيير الخارطة السياسية في تشاد المجاورة وتحويلها إلى دولة تابعة من خلال إقامة نظام حكم يتلقى أوامره من طرابلس ، وظهرت معارضة قوية داخل تشاد لهذا التوجه ، استماتت السياسة الليبية وحاولت تحريك الجالية الليبية ، ونشبت الحرب بين أنصار ليبيا داخل تشاد وبين المعارضين لها ، وبعد حسابات دقيقة ومواءامات تدخلت فيها قوى دولية وضغوطات عالمية خانقة ،فضّل الليبيون تهدئة الأوضاع والتسليم بالأمر الواقع!.
4 :النزاع بين إيران واتحاد الإمارات العربية حول جزر طنب الكبرى والصغرى وأبي موسى :تكاتفت عوامل عديدة منها الجيوستراتيجي والاقتصادي ، وكذا القومي والسياسي ، وأيضاً الديموجرافي والاجتماعي في إثارة النزاع بين إيران ودولة الإمارات العربية المتحدة حول الجزر الثلاث الواقعة في مدخل الخليج العربي ، وهي طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى ، ويعد هذا النزاع من النزاعات الهادئة الذي وصل إلى أقصى درجات حدته باستيلاء إيران على الجزر الثلاث ، ثم اخذ بعد ذلك طريقه نحو المساجلات ذات الطبيعة القانونية والبحث عن الأسانيد والحجج التي يرتكن إليها كل طرف ، حتى يتمكن من إقناع الآخر والعالم بأحقيته في المطالبة بتلك الجزر ، وبصفة خاصة أن النزاع يوشك أن يدرج في ساحات القضاء الدولي .
5 :الصراع العراقي الإيراني :من الصراعات الدامية التي تحولت إلى حرب مستعرة لمدة ثماني سنوات متواصلة كان الصراع بين العراق وإيران الجارتين المسلمتين ، ويبدو أن الصراع كان إفرازاً لإرسابات متراكمة منذ فترة طويلة ، تداخلت في تشكيلها عوامل قومية وسياسية وربما دولية ، ومثلما نشب هذا الصراع الشرس دون أسباب واضحة ، انفض دون أن يؤدي إلى نتائج ملموسة لأي من الطرفين ، لقد أدت الحرب بين العراق وإيران إلى إعياء شبه كامل للدولتين عسكرياً واقتصادياً، وربما كان ذلك وراء قبولهما لإيقاف الحرب ! .
6 :نزاعات حدود وأقليات بين تركيا والعراق وسوريا :تسببت الأقلية الكردية التي تتداخل في كل من تركيا وإيران والعراق وسوريا في حدوث نزاعات بين الدول الأربع ، وقد اكتنف الصراع العراقي الإيراني هذا الإشكال ضمن أبعاده المتعددة ، أما فيما يتعلق بتركيا والعراق وسوريا ، فلا تزال هذه المسألة محل خلاف ، ولم تتفق الأطراف الإقليمية على صيغة ملائمة لحلها ، وبصفة خاصة لواء الأسكندرونة الذي اقتطعته تركيا من سوريا وكاد الزمن أن ينسي الأخيرة أهميته بالنسبة لها ، ويبدو أنهم في انتظار فرض هذه الصيغة جبراً من الولايات المتحدة ، التي قفزت إلى المنطقة لنشر القيم على النسق الأمريكي ، وفرض النظام باستعمال القوة ، التي لم تعد في حوزة غير الأمريكيين !! .
7:النزاع بين أسبانيا ومراكش :يميل أبناء الجزيرة الأيبيرية من وقت لآخر إلى تأكيد انتماءاتهم ، الدينية للمسيحية المتعصبة ، والحضارية لأوربا المستنيرة ، والعصرية للوحدة الأوربية الناشطة من أجل القطبية الدولية ، ويدفعها ذلك الميل إلى الثورة على ماضيها الذي عاشت منه قروناً أزهى وأبهى مراكز الحضــارة الإسلامية ، ولأسبانيا التي تفضل هذا الاسم اللاتيني ارتباطات صراعية مع مراكش الجار الجنوبي ، الذي يفصله عن شبه الجزيرة مضيق جبل طارق ، الذي عبره الإسلام بحضارته وثقافته في الأيام الخوالي ، وكعادة التماسات الطرفية تطورت الارتباطات الصراعية بين أسبانيا ومراكش حول بعض المناطق والنقاط ، ولكنها كانت تفتر بفعل عوامل وتطورات منها المحلي ومنها الإقليمي ومنها العالمي .
وفي يوليو من عام 2002 م فوجئ العالم بتطور الصراع بين الدولتين إلى درجة قيام أسبانيا باحتلال عسكري لإحدى الجزر التي تقع تحت السيادة المغربية ، وبالرغم من أن جزيرة ليلا هي إحدى الجزر المتناهية الصغر إلا أن احتلالها عسكرياً ذو دلالة في هذا السياق ، حيث يؤشر إلى أن الصراع بين الدولتين هو صراع عميق ودفين وقابل للتأجج في أية لحظة ، ويؤشر كذلك إلى أن التماس العربي مع شبه جزيرة أيبريا لا يُؤمن جانبه على الأجل الطويل .