الجيوش الوطنية والثورات العربية دراسة منهجية تجريبية موثقة

تابع خصائص الجيوش العربية

التصنيع العسكري (4)

كما في التسليح يستفيد الجيش من جماع التقدم ونتاج التقنيات فيما يتعلق بالتصنيع العسكري، الذي يمثل مع توأمه المدني منذ الأزل أرقى أشكال الحضارة ونتاجاتها ، والتصنيع العسكري من أهم عوامل دعم الجيش وترسيخ قدرته وفعاليته ، وتطمح الجيوش إلىتوفير أكبر قدر ممكن من أسلحتها عن طريق تصنيعها محلياً ، لما لذلك من فائدة كبرى ، ولكن هذه الغاية لا تدرك إلا بشــق الأنفس ، ولا يسعنا إلا أن نضع أيدينا على بعض ما يعترض رغبة التصنيع العسكري من مشاق وصعاب :

البند الأول : ماذا يعني التصنيع العسكري وما الفرق بينه وبين التصنيع الحربي :

التصنيع العسكري يعني إقامة صناعة تهتم بتصنيع كل مستلزمات الحياة العسكرية ، سواء أكان سلاحاً أو مصنوعات أخرى ترتبط به ، ومن هذا التعريف يتضح أن ثمة فروقاً جوهرية بين التصنيع العسكري والتصنيع الحربي نوردها في :

أ :التصنيع العسكري أوسع وأكثر شمولاً ، فهو يشمل كل ما يهم الحياة العسكرية ويرتبط بها، حتى ولو لم يدخل مباشرة في شئون الحرب ، في حين أن التصنيع الحربي يتعلق بمستلزمات الحرب ، وما يستعمل في خوضها بشكل مباشر .

ب :التصنيع العسكري يحتاج إلى تخطيط طويل الأجل ، واستراتيجية أكثر شمولاً وعمومية ، مثل التخطيط لإقامة قاعدة صناعية مدنية ، أما التصنيع الحربي فهو في المعتاد سياسة مؤقتة ترتبط بظروف الحرب سواء أكان استعداداً لها أو خوضها بشكل فعلي .

ت :التصنيع العسكري يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالصناعة المدنية ، فهو يستفيد من صناعات أخرى عديدة ، كما يمكن تحويل بعض خطوط الإنتاج في التصنيع العسكري إلىالإنتاج المدني ، أما بالنسبة إلى التصنيع الحربي فهو لا يحتاج إلى الصناعات المدنية إلا في أضيق نطاق حيث أن همه هو معدات الحرب بشكل   مباشر .

البند الثاني : مستلزمات قيام صناعة عسكرية قوية :

وإذا انتقلنا إلى البحث في مرتكزات وأساسات إقامة صناعـة عسكرية قويــة ، فيمكننا تحديد تلك المرتكزات في الآتي :

أ :تحتاج الصناعة العسكرية إلى بنية تحتية قوية ، فإذا كانت البنية التحتية تمثل ضرورة ملحة بالنسبة إلى الصناعة المدنية بشكل عام فإن البنية التحتية بمفرداتها المترابطة مثل شبكات الطرق الممهدة والمرافق العامة من كهرباء ومياه واتصالات سلكية ولا سلكية كل ذلك يعد أكثر لزومية وحيوية للصناعة العسكرية ، فذلك خير معين لتلك الصناعة علي التطور والازدهار .

ب :يضاف إلى ما تقدم أن الصناعة العسكرية تحتاج كذلك إلى قيام صناعة مدنية قوية وما يصاحبها من فكر صناعي ، وجدوى الصناعة المدنية أنها تخلق رجل أعمال ، أو رجل صناعة يمتلك عقلاً ناضجاً وفكراً واسعاً ، يؤمن بأهمية الصناعة المحلية ، ويقدر دورها في الاقتصاد الوطني ، ومن ثم فهو ينقل نفس هذه المواصفات إلى الصناعة العسكرية ، ما يؤهلها للنجاح والتفوق عكس ما لو أقيمت الصناعة العسكرية من فراغ ، وبدأت الدولة بها دون تبلور وتراكم معارف وأفكار عن الصناعة بشكل عام .

ت :تحتاج الصناعة العسكرية كذلك إلى صناعة معاونة ومساندة تفي بغرض الصناعة العسكرية من المنتجات الأساسية مثل الصلب والألمنيوم وبعض أنواع اللدائن والمنتجات الوسيطة مثل المحركات والهياكل والإطارات .

ث :العنصر البشري يمثل عاملاً أساسياً في تطوير الصناعة العسكرية ، والاستثمار في العنصر البشري من خلال التصنيع العسكري يمثل استثماراً أمثلاً ، ويحتاج العنصر البشري إلى عمليات تأهيل وتدريب تصل به إلى مرحلة الاكتفاء الذاتي وعدم الاعتماد على العمالة المستوردة إلا فيما ندر .

ج :من مستلزمات الصناعة العسكرية بشكل أساسي توافر مراكز بحثية تتمثل مهمتها في البحث والتطوير المستمرين ، فهذه الصناعة تحتاج إلى بحث دائم عن أفضل الأسلحة وأكثرها كفاءة وأقدرها على المناورة ، كذلك فعمليات التطوير والتحوير للأسلحة التي تم تصنيعها وتجريبها واشتراكها في معارك أو مناورات هي عمليات مهمة وحيوية ، وتحتاج هذه المراكز البحثية إلى عناصر متميزة حتى يتسنى لها القيام بهذه المهمة .

ح :من أهم مرتكزات إقامة صناعة عسكرية قوية إنشاء جسور قوية للتعامل مع شركات عالمية شهيرة ومشهود لها بالكفاءة في مجال التصنيــع العسكري ، ويمكن الحصول على الخبرة من هذه الشركات ، وكذا ما يعرف بحق المعرفة وقد تبرز مشاكل عديدة فيما يتعلق بمسائل الحصول على الخبرة وحق المعرفة ومن هذه المشاكل :

1:تَمنُّع كثير من الشركات في قبول تزويد الصناعة العسكرية في الدول الأخرى بالخبرة وحق المعرفة تحت دعوى الحفاظ على الأسرار العسكرية .

2 :بعض الشركات تطمع في بيع حق المعرفة بمقابل مادي مُبالغ فيه استغلالاً لظروف الدول الطالبة ورغبتها في تطوير صناعتها .

3 :بعض الدول تخشى من أن يؤدي نقل حق المعرفة إلى انتشار عمليات تطوير وإحداث السلاح ، ما ينتج عنه إمداد الأطراف المتصارعة بالسلاح ، وإزكاء نيران الصراعات الإقليمية ، وفي هذا الصدد تطالب الدول الكبرى بقصر أسرار تقنيات الأسلحة الحساسة على دول معينة دون غيرها .

خ :تحتاج صناعة السلاح إلى ميزانيات ضخمة ومخصصات هائلة للإنفاق على برامج تصنيع السلاح ، فإذا لم تكن الدولة على قدر يعتد به من الثراء المادي والاقتصاد القوى قد لا تفلح فيها صناعة السلاح في تحقيق أهدافها .

د :صناعة السلاح ليست كمشروع اقتصادي تُنتظر أرباحه ومدخولاته فور تشغيله ولكنها عملية ذات مردود متعدد المستويات :

1 :فعلى المستوى السياسي تعفي صناعة السلاح الدولة من الاعتماد على الغير والتبعية السياسية والتأثير على استقلالية القرار السياسي .

2 :وعلى المستوى الاقتصادي تعفى الدولة من الاستيراد مع الاكتفاء ذاتياً علاوة على تأسيس قاعدة صناعية .

3 :وعلى المستوى الأمني والعسكري تعتبر عملية التصنيع العسكري دعماً قوياً لاستراتيجية الأمن والدفاع عن الدول العربية . 

4 :وعلى المستوى الاجتماعي تعد عملية التصنيع العسكري إحدى ميكانيزمات الحفاظ على المجتمع وحماية أمنة ومكتسباته .

البند الثالث : أهداف عملية التصنيع العسكري :

تتحدد أهداف عملية التصنيع العسكري في هدفين يمكن تناولهما في :

أ :الهدف الأول : تسليح الجيش : يعتبر الهدف الأول والأساس من وراء عملية التصنيع العسكري هو تسليح الجيش ، وثمة وجهان للعلاقة بين التصنيع العسكري وتسليح الجيش، ويمكن توضيح تلك العلاقة من خلال الآتي :

1 :القيام بدراسة مسحية متكاملة لكافة احتياجات الجيش من الأسلحة ثم ترتيب الأسلحة بدءً من الأسهل والأبسط وانتهاءً بالأسلحة الثقيلة المعقدة ، بعد ذلك يُشرع في ترتيبات إقامة المصانع لإنتاج أنواع الأسلحة الأبسط ثم يتم التطوير بإضافة نوعيات جديدة وهكذا .

2 :الشروع في عملية التصنيع حسبما يتم الاتفاق على تصنيعه مع الشركات صاحبة الخبرة وحق المعرفة ، ثم يتم تزويد الجيش باحتياجاته من هذه الأسلحة ، والشروع في تصنيع نوعيات أخرى .

وتأخذ معظم التجارب بالمسلك الأول حيث يتم دراسة الاحتياجات ، ثم يُشرع في عملية التصنيع وفقاً لتلك الاحتياجات ، وثمة آراء تأخذ بالمزاوجة والتنسيق بين المسلكين ، ويُلاحظ أن التجارب التي تأخذ بالنهج الثاني هي التجارب التي تغّلب الطابع التجاري على هدف التسليح الذاتي .

ب :الهدف الثاني : التصنيع من أجل البيع : كثير من شركات تصنيع السلاح تنغمس في صناعة السلاح بهدف التجارة ، ومن ثم فهذه الشركات تعمد إلى صناعة نوعيات الأسلحة التي تلاقي رواجاً في أسواق السلاح ، وكذا التي تدر ربحاً وفيراً .

البند الرابع : ميزات التصنيع العسكري :

يحقق التصنيع العسكري جملة من الميزات يمكن إجمال أهمها في الآتي :

أ : الإعفاء من الاعتماد على مصادر أجنبية : مما لا شك فيه أن كل قطعة سلاح يتم تصنيعها محلياً تعفى دولتها من الاعتماد على مصدر أجنبي في توفيرها ، وقد سبق لنا أن أوضحنا في موضع سابق كيف أن عمليات استيراد السلاح تؤدي في بعض الأحوال إلى الحد من استقلالية القرار السياسي .

ب : ميزة المكانة الدولية : عادة ما تأخذ الدولة المصنعة للسلاح مكانة مميزة بين الدول الصناعية، ومعلوم أن تصنيع السلاح هو أرقى من التصنيع العادي لتفرد الأول بمواصفات وتقنيات ذات طبيعة خاصة .

ج : التعاون وثيق بين قطاع الصناعات العسكرية وقطاع الصناعات المدنية ، وما من شك في أن كلاً منهما يؤثر في الآخر ، فالقطاع العسكري قد يحصل على كثير من احتياجاته كقطع الغيار والسلع نصف المصنعة من القطاع المدني ، والأخير بدوره يعتمد على القطاع العسكري في إمداده بالعديد من المنتجات ، وقد لوحظ أن عملية التطوير المستمرة لقطاع الصناعات العسكرية تؤثر بالتالي على القطاع المدني بالتطوير والازدهار .

ح : يساهم قطاع الصناعات العسكرية بقسط لا بأس به في استيعاب عدد كبير من الأيدي العاملة ، ثم هو يتولى هذه العناصر بالرعاية والتدريب رفيع المستوى ، ما يقود في النهاية إلى الارتقاء بمستوى الأيدي العاملة ، وعليه فإن إحدى ميزات التصنيع العسكــري تتمثل في الاستثمار في العنصر البشري .

خ : من ميزات التصنيع العسكري ، ما يترتب على الصناعة العسكرية ، من تحقيق مردود اقتصادي نتيجة الاكتفاء الذاتي ، أو تحقيق مدخولات مادية نتيجة عمليات البيع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى