الرئيسية » تحرر الكلام » الثورات العربية وحقوق الإنسان .. علاقة حتمية وشائكة (2)

الثورات العربية وحقوق الإنسان .. علاقة حتمية وشائكة (2)

العدالة وحقوق الإنسان

ثمة علاقة وطيدة بين العدالة وحقوق الإنسان ، حيث تعتبر العدالة درعاً واقياً لتلك الحقوق ، ويمكن إيضاح ذلك من خلال الآتي :

أ ـ قيمة العدالة : العدالة قيمة إنسانية عليا وُجدت في مجتمعات عديدة منذ قديم الزمان ، وهي تعني انتفاء الظلم والجور ، ولقيمة العدالة جانب شرعي ، نلمسه من خلال الاهتمام الملحوظ الذي أعطته الشريعة الإسلامية لتلك القيمة ، كما أن لها جانباً اجتماعياً مهماً ، فسيادة هذه القيمة داخل المجتمع تقود إلي انتشار الأمن والأمان والاطمئنان لدى الأفراد والجماعات ، فكل فرد داخل المجتمع يشعر ويتيقن أنه سيحصل على حقه دون ضياع أو إهدار .

ب ـ العدالة الإجرائية : يقصد بالجانب الإجرائي للعدالة أو العدالة الإجرائية المسائل ذات الصبغة الفنية مثل المساواة أمام القانون ، ونزاهة المحاكمات ، ويوجد في الدولة الإسلامية جهة معينة تكون مسئوليتها الإشراف على تطبيق العدالة ، وهي في المعتاد وزارة العدل .

ويقع على عاتق ولي الأمر أو الحاكم مهمة إقامة العدالة في المجتمع ، وتنظيم وترتيب الجانب الإجرائي للعدالة ، والذي يتمثل في الآتي :

1 ـ تحديد معايير وضوابط تعيين القضاة وتدرجها ، وكذلك العاملين في مجال إقامة العدالة ، بما يضمن نزاهة القضاء واستقلاليته .

2 ـ إنشاء المحاكم ودور القضاء وتوزيعها بشكل متوائم مع مناطق الكثافة السكانية على إقليم الدولة ، حتى لا يشق على المتقاضين وأصحاب الحقوق .

3 ـ اختصار زمن وإجراءات نظر القضايا والبت فيها ، حيث أن العدالة البطيئة نوع من الظلم ، ولكن بما لا يخل بمتطلبات الاستيفاء ، ومستلزمات الحيدة والنـزاهة.

4 ـ تجهيز وإعداد القوة الخاصة بتنفيذ الأحكام ، بما يضمن سرعة التنفيذ ، وحصول صاحب الحق على حقه .

ت ـ  بدعة العدالة الإنتقالية : العدالة قيمة تتسم بالثبات والإطلاق في تطبيقها ، وهذه القيمة ليست وقتية أو مرحلية ، وما يتداول إبان الثورات العربية من مفاهيم مثل العدالة الإنتقالية إن هي إلا رغبة مقصودة أو غير مقصودة في تشويه هذه الثورات ، وإظهارها على أنها تجافي حقوق الإنسان ، وتتعامل مع قيمة العدالة على أنها قيمة تطبق في مرحلة معينة ، ومن شأن هذا أن يتنافى مع طبيعة وحقيقة هذه القيمة ، كما أنه من غير المنطقي الإدعاء بأن ثمة عدالة بشكل معين لكل مرحلة من مراحل تطور الشعوب ، ومن ذلك أن المرحلة الإنتقالية التي تلي الثورات وتمهد لبناء دول جديدة تحتاج إلى عدالة إنتقالية تلائم تلك المراحل .

إن بدعة العدالة الإنتقالية إنما ابتكرت من أجل المحاسبة على الجرائم التي ارتكبت إبان العهود المبادة ثم إبان الثورة من قبل رموز تلك العهود ، بدعوى أن الجرائم التي ارتكبت خلال المرحلتين المذكورتين لم تكن تُعامل على أنها جرائم ، مثل الفساد السياسي والإفساد السياسي ، حيث أن الفساد والإفساد السياسي ليس إلا من وجهة نظر الثوار ، أما من وجهة نظر الأنظمة المبادة فلم تكن كذلك ، إلا أن وصف وتكييف هذه الجرائم لا يحتاج إلى عدالة إنتقالية ، بل يحتاج إلى تكييف وتوصيف هذه الجرائم من وجهة نظر الثورة والثوار والمرحلة الجديدة ، وهذه مسألة تدعمها بل تفرضها الشرعية النابعة من الشعب الثائر .

ويرى أصحاب بدعة العدالة الإنتقالية أنه حتى لو تم تكييف أفعال الفساد والإفساد السياسي على أنها جرائم ، فيبقى أمر آخر وهو العقوبات التي تضارع حجم المخالفة ، أو بالأحرى حجم التخريب والتدمير الذي لحق بقيم المجتمع لقاء تلك الأفعال ، وتقدير عقوبات الفساد والإفساد السياسي لا تحتاج كذلك إلى عدالة إنتقالية ، بل تحتاج إلى معالجة قانونية تتواءم مع طبيعة المرحلة وتدعمها الشرعية الإجتماعية للشعوب الثائرة .

ويحتج كذلك أصحاب العدالة الإنتقالية لمحاسبة المجرمين على جرائم الفساد والإفساد السياسي ، بأنه لا بد من عدالة ناجزة ، وهذا يحتاج إلى العدالة الإنتقالية ، إلا أنه بقليل من التأمل ، نكتشف أن إنجاز نظر جرائم الفساد والإفساد السياسي تحتاج إلى سرعة إجراء وجدية وشفافية وصدقية ليس إلا ، وكل ما تقدم هو مفردات أو مكونات قيمة العدالة دون أن تكون إنتقالية .

ث ـ العدالة صلب وقوام حقوق الإنسان : تضمن العدالة عدم التعدي على عناصر وجود الإنسان ومقومات حياته ، وإذا حدث التعدي فهي تصحح الخلل وتقوّم الاعوجاج ، فهي وقاية وعلاج في وقت واحد .

إن العدالة قيمة حارسة ومراقبة ، تحرس وتراقب عناصر الوجود الإنساني ومقومات الحياته الطيبة ، وهي بوصفها هذا لا تتحرك ولا تباشر دورها العلاجي إلا عندما تُنتهك حرمة عناصر الوجود الإنساني ، أو تُخترق مقومات الحياة الطيبة ، وعند هذه اللحظة يتم سلب تلك العناصر والمقومات من قبل معتدي مجرم ، وعلى أثر ذلك تتحرك العدالة وتباشر دورها في العمل على إعادة عناصر الوجود ومقومات الحياة الطيبة إلى من سُلبت منه ، فعنصر الوجود ومقوم الحياة الذي سُلب تحول إلى حق ، أي مِلك يجب إعادته إلى صاحبه ومستحقه ، وعليه فالعدالة تحرس منذ البداية العناصر والمقومات قبل أن تتحول إلى مِلك مسلوب ، ثم تتحول إلى مصلح يتولى مهمة إعادة المِلك المسلوب الذي بات متنازعاً عليه ، ومن ثم أصبح يسمى حقاً ، على هذا ترتسم العلاقة بين العدالة وحقوق الإنسان ، علاقة الحارس بمحروس ، والمصلح لخلل ، والمعيد لمِلك مسلوب ، والمنشئ لمصطلح الحق ، والذي يمنحه محتواه اللفظي ودلالته الرمزية .

قد يعجبك أيضاً

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.