الرئيسية » أرشيف - المجلة » الشوارب.. زينة الرجال وخط أحمر ممنوع الاقتراب منه

الشوارب.. زينة الرجال وخط أحمر ممنوع الاقتراب منه

(خاص – وطنوعد الأحمد)  لا يُذكر “القبضاي” في المجتمع الشامي القديم إلا وتُذكر شواربه التي يجب أن تكون من النوع الذي يقف عليه النسر-كما يقولون- وبدون الشوارب تبدو رجولة القبضاي كما لو أنها ناقصة أوغير موجودة على الأصح.

 

ولذلك نالت الشوارب في المجتمع السوري بشكل خاص والعربي عموماً ولا تزال قيمة رمزية لم تدانيها أية قيمة أ4خري فهي أول علامة علي نضج الفتي وبلوغه سن الحلم وبها ينتقل من طور الطفولة إلي طور الشباب، وعندما يكبر ويبلغ سن الرجولة تصبح هذه الشُعيرات الصغيرة فوق الفم خطاً احمر لا ينبغي الاقتراب منها أو الإساءة لها بأي طريقة حتي ولو كانت بشكل عفوي غير مقصود.

 

ولعل الشيء الوحيد الذي كان حلاق الحارات الشامية القديمة في الماضي يحذر منه صبيه عندما يبدأ في تعلم الحلاقة، هو عدم الاقتراب من شوارب الزبائن، وإذا حصل أطارت شفرة الحلاق أو صبّيه جانباً من شارب أحد الزبائن وخاصة إذا كان من النوع (الحِمشْ)، فإن هذا كفيل بإشعال معركة حامية الوطيس قد تسيل فيها الدماء أو تطير فيها الرؤوس، لأن الشوارب ليست مجرد شعيرات تنبت فوق الفم وتتخذ أشكالاً متعددة وإنما تحمل دلالات رمزية تعبر عن الهيبة والأناقة في أحيان كثيرة، وقبل ذلك هي رمز للرجولة وجزء من الشرف الشخصي.

 

جاء في معاجم اللغة (الشوارب مجاري الماء في الحلق وما ينبت علي الشفة العليا من الشعر ويُقال لكل طرف شارب وهما شاربان) وكلما كانت ضخمة وكثة كانت هذه الصورة أكثر تعبيراً، ولكن الإسلام حث علي إعفاء اللحية وحف الشارب لأن في ذلك مقتضي الفطرة وتَمُّثل لسنن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لقول الرسول محمد صلي الله عليه وعلي آله وسلم: (خالفوا المشركين، أحفوا الشوارب، وأوفوا اللحي). رواه البخاري، ورواه مسلم عن أبو هريرة بلفظ (جزوا الشوارب وأرخوا اللحي خالفوا المجوس).

 

وقال عليه الصلاة والسلام أيضا: من لم يأخذ من شاربه فليس منا. رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وصححه الألباني.

 

وكان الرسول (صلي الله عليه وسلم) يحف شاربه، وربما أمر الحجَّام أن يأخذ من شاربه.قال المغيرة بن شعبة – رضي الله عنه -: ضفتُ رسول الله صلي الله عليه وعلي آله وسلم. قال: وكان شاربي قد وفّي ، فقصّه لي علي سواك، أو قال أقصه لك علي سواك. رواه أحمد وأبو داود وغيره، وصححه الألباني.وفي رواية قال: فوضع السواك تحت الشارب فقصّ عليه.

 

قاصمة الظهر

 

حظيت الشوارب بمكانة خاصة في الموروث الشعبي السوري سواء من خلال المعتقدات الشعبية أو المرويات أو الأمثال الدارجة ومن دلالات حضورها في الذاكرة الشعبية تلك الصورة النمطية في اللوحات التي تجسد السير الشعبية وأبطال الأساطير العربية، وغالباً ما نري البطل في هذه اللوحات ملتحياً وذا شوارب طويلة وهذا التضخيم في رسم الشارب يعود إلي الاعتقاد بأن هذا علامة الشباب والقوة والرجولة.

 

ومن الصور الشعبية التي تدل علي عمق الحضور الرمزي للشوارب أن القبضاي في الأحياء القديمة كان في الماضي يستبعد الشوارب من ساحة الحلفان في كثير من المواقف التي يضطر فيها أن يحلف لأنه لا يحلف فيها إلا علي الغالي كما يقال، وإذا حلف فيها كاذباً أصبح هذا الأمر مدعاة سخرية وإذلال بالنسبة له، وكان القبضاي الشامي في الماضي عندما يريد أن يستدين ولا يملك ما يرهنه مقابل الدين يرهن خصلات من شواربه ويعتبر هذا الأمر “قاصمة الظهر” بالنسبة له فإذا ما ملك ما يرد به الدين هرع إلي المدين لاسترداد شعرات شواربه مهما كانت قليلة وغير ذات قيمة كما تبدو للبعض اليوم، وكلنا يذكر المسلسل السوري الشهير(أيام شامية) الذي اضطر فيه قبضاي الحارة (عباس النوري) أن يرهن خصلة صغيرة من شواربه عند ابن حارته (خالد تاجا) وما جرَّ ذلك من مشاكل عندما عاد لاستردادها واكتشف أن من أؤتمن عليها قد أضاعها، فالشوارب في المجتمع الشامي القديم أي خلال القرنين الماضيين كانت جزءاً من شرف الشخص لا يجوز الاعتداء عليها أو تلطيخها بالسمعة أو بالإشارة وربما جرت دماء كثيرة من جرَّاء ذلك.

 

أما الآن فقد اختلفت المعايير في المجتمع العربي، وتبدلت نظرة الناس لهذا الأمر وإن كنا لانعدم بعض المظاهر وخاصة في الأحياء الشعبية التي لا تزال تحافظ علي تقاليدها وعاداتها فإلي الآن إذا أراد أحدهم أن يستوثق من أمر أو يتأكد من صحته وخاصة في الرهانات يقول للآخر (امسك شواربك) فمسك الشوارب ميثاق لا يدانيه ميثاق آخر ومن يخل بهذا الميثاق الشفهي أو يكذب من بعد أن يمسك شاربه فكأنه لطخ سمعته وجلب عليه نظرات الاحتقار والازدراء.

 

ويلجأ البعض إلي القَسَم به قائلاً “سأحلق شاربي إذا لم أفعل كذا وعندما يمسك صاحب الشارب طرف شاربه متعهداً الوفاء بأمر ما فإن ذلك يعني في العرف الاجتماعي بمثابة كلمة شرف لا يجوز الإخلال أو النكوث بها وإلا لحق به عارٌ كبير، ويقولون له في هذه الحالة(روح حليق شواربك) لأنها فقدت قيمتها الرمزية حسب اعتقادهم الشعبي.

 

وكلنا يذكر التعليقات الساخرة التي طالت “أحمد الشلاش” أحد أبواق نظام الأسد عندما تعهد منذ اشهر بأن يحلق شواربه فيما إذا لم يستعد النظام إدلب و قال عضو مجلس الشعب السوري في تدوينة كتبها على صفحته الشخصية في “فيسبوك” حينها: “اذكروا كلامي جيداً، إن بقيت إدلب في يد الإرهابيين (في إشارة إلى قوات المعارضة) أكثر من 10 أيام سأحلق شواربي على الهواء مباشرة والأيام بيننا”.

 

فرمان الشوارب!

 

يعتبر البدو من أكثر الناس حفاظاً علي الشوارب وقيمتها الرمزية في حياتهم ولعل أقصي إهانة يمكن أن توجه إلي بدوي أن يُسب شارباه وكلنا يذكر الإهانة التي تناقلتها وكالات الأنباء ووجهها الرئيس العراقي السابق صدام حسين إلي قاضي المحكمة التي تقاضيه عندما قال له: (يلعن أبوشواربك).

 

ومن طرائف ما يروي عن الشوارب أن الرئيس التركماني “صابر مراد نيازوف” قد أمر جميع رجال دولته بحلق شواربهم ولحاهم وحظر عليهم إطالة شعورهم، ونص القرار الرئاسي الذي أصدره الرئيس الذي أطلق علي نفسه لقب(تركمان باشي) علي حظر إطالة الشعور وكل ما يظهر علي الوجه مثل الشوارب أواللحي كما تضمن المنع صباغة الشعر أو إتباع الموضة عند تقصيره ويعود هذا القرار إلي ما قام به الإمبراطور الروسي بطرس الأكبر عندما استل مقصاً وأشرف بنفسه علي تقصير لحي وشوارب الرجال وفساتين النساء في بطرسبورغ ثم امتدت ثورته إلي كل المدن والأقاليم الروسية التي شهدت منذ ذلك الوقت ولادة عهد جديد.

 

وهذا يذكرنا بالفرمان الشاهاني الذي أصدره السلطان العثماني محمود الثاني الذي اهتم بلباس رجال دولته ورعيته وحدد في هذا الفرمان طول الشاربين واللحية وطراز الجبة وعرض أكمامها وأوجب لبس الطربوش كلباس رسمي للرأس. ومن العقوبات التي كانت سائدة في سورية أيام العثمانيين أن السلطان كان يصدر حكماً قاسياً علي أحد المدنيين فيحلق شاربه أو نصف شاربه، ويأمر بإركابه حماراً بالمقلوب ثم يطوف الجند به في شوارع دمشق حتي يشاهده الناس علي هذه الصورة المزرية وتدعي هذه العقوبة (التجرَّيص) وقد ذكر جوانب منها البديري الحلاق في كتابه (حوادث دمشق اليومية).

 

لكل شارب مقص!

 

من الأمثال الشعبية التي تناولت الشوارب قولهم (الشوارب زينة الرجال) كناية عن أهميتها في زينة الرجل وإضفاء الهيبة عليه ويقولون (فقير وشواربو كبار) عن الرجل الذي يهتم بتطويل شواربه ولا يملك قوت يومه وأيضاً(لو الرجولة بالشنب لكان الصرصور سيد الرجال) و(لكل شارب مقص) ويعنون بها أن علي الإنسان أن لا يتكبر لأنه سيجد هناك من هو أقوي منه.

 

ويقال عن بعض الشوارب (يقف عليها النسر) كناية عن ضخامتها وقوتها، ومن كنايات العامة قولهم (خلي الشوارب علي جنب) إذا دُعي أحدهم للحلف بها لأنه من العار أن يحلف كاذباً علي هذا الجزء العزيز من جسمه وكلنا يذكر الأغنية الشعبية التي يغنيها الفنان اللبناني طوني حنا صاحب الشوارب المميزة ويقول فيها (لاتحلفيني بالشنب لاتعشميني بالعتب من قلبي بحلفلك يمين إني علي حبك أمين خلي الشوارب علي جنب).

 

قوة وهيبة!

 

تغيرت اليوم النظرة إلي قيمة الشوارب الرمزية مع تغير الزمن وتبدل الكثير من المفاهيم والمعايير الاجتماعية إلا في نطاق ضيق ولدي بعض الذين لا زالوا محافظين علي التقاليد والأعراف القديمة، و”لم يعد الشارب من علامات الأناقة كما كان قديماً وإن كان لا يزال يحتفظ بقيمته الرمزية، وأصبح خبراء الموضة يتحكمون في كون معظم الشباب العرب بشارب أو بدون شارب.” كما قال الحلاق أبو فواز غنام رئيس جمعية الحلاقين الذي يعيش في الأردن اليوم لـ”وطن” ورأي الحلاق “فراس الحصني” أن “هناك عودة اليوم إلي موضة تقليد الفنانين ونجوم السينما سواء في ضخامة الشوارب أو رقتها وهناك من يطلب منه حف الشارب من الأعلي كما كان يفعل بعض أبطال السينما الكلاسيكية.

 

ويقول الشاب (عبد الحليم عامر) “وجدت أبي لا يربي شاربه، فقلدته “، ويضيف: فرحت بشاربي عندما ظهر وأنا صغير في الثالثة عشرة من عمري، وكنت أحرص علي تسويته وإظهاره، كإحدى علامات الرجولة، لكن الموضة هي التي تحكم في النهاية” .

 

من جانب آخر تُبدي (انتصار الجاسم) إعجابها بالشوارب الطويلة المرفوعة للأعلي وهي تتابع- كما تقول- أخبار الجمعيات الخاصة بأصحاب هذا النوع من الشوارب في مختلف أنحاء العالم، وتؤكد انتصار أن “الشارب الطويل يُكسب صاحبه قوة وهيبة أمام الناس، ويجعله ذا شخصية مميزة في الوسط الاجتماعي”.

 

قد يعجبك أيضاً

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.