الرئيسية » تحرر الكلام » تحت تمام رحمة الله في استطنبول!

تحت تمام رحمة الله في استطنبول!

وطن- لم أصدق نفسي ومساعد الطبيب في الزي الأزرق المميز يناديني باسمي الأول والاسم الأخير، اسم العائلة كما يحبذون هنا:

ـ محمد عثمان!

“فَزَزتُ” واقفاً كما اعتدتُ منذ أيام المدرسة القومية الابتدائية المشتركة ببني مزار، منذ منتصف السبعينيات، ثم لمّتُ نفسي بيني وبينها في “خبث” طفولي نادر:

ـ لماذا وقفتِ أيتها “البلهاء” يارب أقدرني؟!

وحضرتني قصة السجان الذي دعا أحد العرب “ليتقاصر” حتى “يجلده” فقال على الفور:

ـ إإلى أكل “الفلوذج”، المهلبية، تدعونني؟!

هذا بعد أن سبّه كما تقول الرواية، وحاشا لله أن أفعل، ولكنني تسمرتْ:

صباح عادي من ايام الجمعة، قالتْ زوجتي، حفظها الله، قبلها بساعات، صديقتي التركية حددتْ، عبر، زوجها موعداً لك مع مستشفى كبير ثقة في المدينة بعد ساعات، تحاملتُ وتعاملتُ مع الأمر كأنه عادي، واستدرتُ ونمتُ، وفي الصباح حدث ما توقعتُ مغص شديد جعلني أتلوى، قلتُ لنفسي:

ـ الخوف كالعادة.. يا رب كن لي ومعي!

فقالتْ:

ـ هل تعتذر عن الموعد؟!

أعرف من قبلها إن في الأمر “تدخل بالليزر” لإزالة شوائب أوقفتْ عمل العين اليمنى، ولكنني أجلتُ القرار، وكنتُ حتى ساعات، بعدما أجلتُ و”تناسيتُ” الأمر أتعامل على إنه لا شىء في الأمر بل أقول لنفسي:

ـ في النصف الأول من حياتي أجريتُ جراحات .. واليوم الحمد لله آلام بلا جراحة!

ما من فرصة للاعتذار، هذه عينك توقفها يزعج ويُضعفُ الأخرى، وصديقة زوجتي ستجري خصماً نادراً على الجراحة، أهي جراحة؟ ثم إن الفرصة قد لا تلوح ثانية، وتنتظرها منذ ثلاثة أسابيع..

حددنا المكان على الخارطة، وغيّبتُ صغاري عن المدرسة لآخذ أكبرهم ليترجم لنا في المستشفى، وبعد تيّه وصلنا، ولكننا لم نعرف اسم الطبيب المفترض أن يلقانا، واتصلت زوجتي بصديقتها، واتصلت الأخيرة بزوجها لنفهم إننا سنبدأ من المديرة التنفيذية، سألتْ ابني الأخيرة فأفهمها، وجاء المترجم، وبدأتْ الدورة، ثم عدنا ثلاثتنا إليها فقالت:

ـ هناك تدخلان مطلوبان بالليزر فوراً، واليوم المستشفى شبه خالٍ، وقد تفاهمنا على الخصم والطبيب جاهز!

ما هو أفضل خيار لشراء منزل في إسطنبول؟

استمعتُ إلى المترجم العراقي، واستعدتٌ مشاهد قديمة، أبي، رحمه الله، وعينه هذه، او مقابلة هذه العين منه، وهي عيني أيضاً لفرط محبتي له، تحت الأغطية، وجدتي “زينب” رحمها الله ونفس العين في نفس الحالة من قبل، وتخيلتُ إنهما من وراء الغيب يقولان لي:

ـ لا توصل الأمور إلى حالنا هذا .. فقد تقدم الطب على عهدك!

قلتُ:

ـ أنزل إلى المسجد من فضلك لأصلي..

فغرتْ المرأة غير المحجبة فاها، وهزتْ رأسها وقالتْ:

ـ هذا جديد علي هنا..

ـ إنني صنعته تعالى .. مَنْ استخيّر إن لم استخره، لا بد لي من عودة إلى الصانع ليفيدني في أتمّ وجه لحفظ صنعته .. عيني؟!

كانت قد شرحت لنا، عبر المترجم، وشرحتُ لها بالإنجليزية التي تعرفها بحمد الله ردي، إن الطبيب المصري الذي أجرى “ليّزك” من قبل للعين منذ سنوات قد أخذ من القرنيّة ما لم يكن ينبغي له أن يأخذ والأمر يحتاج تعزيزاً..

دقائق وكانت أبسط العمليتين بعد التوقيع المفروغ منه عن مسئوليتي عن العمليتين.. أما الثانية فكانت في غرفة العمليات، وقد نُوديتُ ووقفتُ .. فكيف لي أن أتراجع، وخلفي أكبر الأبناء؟

ـ تعال؟!

شعر الرجل بتقاصر خطواتي، وقلقي في مكاني، وربما رغبتي في العودة، ولكنني حاولتُ تسكين نفسي فقلتُ لها:

ـ أو ليس الذي كتب الأمر علينا الله .. فليلطف بنا إذن؟!

لم يمهلني الرجل فأخذ بيدي إليه ..فتقدمتُ مٌسميّاً الله:

ـ اخلع؟!

ـ ماذا؟!

فرصة التراجع هنا “تامة .. تامة” فأنا “ممغص” منذ الصباح، ولن ينفع أن أخلع ملابسي، لكن ممكن “أخلع” كلي، أي أترك المكان متوكلاً على الله؟!

ـ الجاكيت؟!

لا حجة لي إذن؟!

وقفتُ “مزبهلاً” منذ دقائق كانت جراحة بسيطة صار الرؤية بهذه العين ناصعة، بحمد الله، فمالي ومال عملية جديدة؟ وأنا الذي ما صدقتْ؟!

قالت زوجتي هذه المرة وقد شعرتْ بأني بدأتُ التراجع بالنظر إلى الخلف:

ـ هات الجاكيت من فضلك!

وابتسمتْ..

في الداخل أرقدني المساعد على سرير خاص بأسفل الجهاز وعقم عيني، وأنا أتلو الآية الكريمة:

“وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا” الآية 17 من سورة الإسراء.

وجائني الطبيب الشاب “مصطفى سعيد” حفظتْ اسمه من فوق لوحة إلى جوار باب غرفته من المستشفى الأوربي للعيون باستطنبول، وكان قد سألني:

ـ أأنت من الجماعات؟!

فقلتُ:

ـ مثلي كاتب محب للخير .. يدافع عنه بعمره اياً ما كان!

ولما جاء من جديد قلتُ له على سجيتي التي اعتدتُها من نفسي في الأزمات، وأنا استبعد من أعماق تكويني إنني غريب في ديار بعيدة، وفي وقت أزمة حتى الصديق أخبره قبل العملية فأجده مشغولاً، والآخر يستيقظ من نومه مبديّاً التعاطف، ولكن “عطر كلماته” يقول:

ـ وماذا بيديّ أن أفعل؟!

أٌجري جراحة داخلية أوصل فيها لأقصى عمق بداخلي إن الله معي..فأقول للطبيب الذي لا يجاوز الثلاثين بحال من الأحوال،  أنا لا استطيع “التلفتَ” لمجرد رؤية معالم الغرفة من حولي:

ـ نحن “إخوة” مسلمين!

فيقول، وقد أخذ مكانه، وبدأ في ضبط رأسي استعداد لوصول الجهاز إلى عيني المطلوبة:

ـ “إنما المؤمنون إخوة”!

بركان بداخلي يهدأ، المياه البالغة التدفق بلونها البالغ البياض تعود للون المياه الشفاف، لم أرد القول له:

ـ إنني غريب وخائف منك، فإنك أخذك جواز سفري، عبر الإدارة، لتسيير أمري لا أمرك، وإني على كل الأحوال لو خرجتْ، لا قدر الله، بلا نجاح فإلى الله وحده المشتكى..

للمشاعر لغة غير لغات العالم بها يتفق البشر عن غير لغة، لمح الطبيب الشاب ما بي فقال:

ـ لا تخف!

فهتفتْ من أعمق أعماقي:

ـ بل قل:”لا تحزن إن الله معنا”!

فابتسم وبدأ عمله، والجهاز الضخم الأقرب لساعد عملاق “وجهه” مقلوب يعلو العين المتعبة، فأرى ضوءًا أخضر مكثفاً يلمع في دوائر ذات نقاط قريبة قلتُ في نفسي:

ـ يا رب أنا والطبيب والأجهزة والامكانات الضخمة للمستشفى ذي النسق الأوربي لا نفلح إلا إذا لجأنا إليك، والطبيب ذي الكفاءة مثلي عبد لك لا يُفلحُ إن لم ترض عنه، أما والأمر يخص إحدى نافذتيّ على الحياة، وقمر تعين أختها الأخرى الأقوى، عيني الأقوى بمنزلة “الشمس” التي بلا “قمر” تذبل، أما والأمر يخص منفذ رؤية أرجو أن تتقبل شهادتي الخالصة بها على الناس والحياة فإني يا رب في غربة داخل غربة داخل غربة، في غربتي عنك في الدنيا حتى تستردني كاملاً إليك، وفي غربتي عن أهلي وصحبتي وناسي، وفي غربة ثالثة من محنة للشرفاء فيها الموت والاختفاء بالأسر، المُقنن الذي يدعي الخبثاء إنه شرعي، والاختفاء القسري، الذي يعلن الخبثاء فيه عن ظلمهم كاملاً، وكان الله في عون الجميع، يا رب في وقت المندسين ومعركة بين حق وباطل داخل إطار المعركة الرئيسية .. داخل غربات وكربات ثلاثة ألجأ والطبيب والمستشفى الفاخر إليك، احفظ علي نور عيني .. وإني لتائب عن كل ذنب في حقك جنابك أرتكبته بها، وإنني لأرجو أن تكون ذنوبي في جنابك وحدك لأكون أقرب إلى مغفرتك..

دارتْ الخواطر في رأسي، والأشعة تخترق عيني، فأقول يا رب إن ضلّ البشر عن آلامنا وزماننا ومكاننا فأنت لا تضل، سبحانك!

 زالتْ كربتي بإذن الله .. وإنني لأحتسب ضوء عيني في سبيله إذ أرجوه أن يحفظه عليّ، وأن يجعل لحظات قاسية من صباح وظهيرة الجمعة الماضية .. حاولتُ فيها استشعار الأنس به وحده في ميزان حسناتي!

“مظاهرة غاضبة” أمام قنصلية الإمارات في إسطنبول تندد باختطاف “بنات العبدولي”

قد يعجبك أيضاً

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.