الرئيسية » تحرر الكلام » الإرهاب والعبور نحو الحداثة

الإرهاب والعبور نحو الحداثة

لعل معظم مناطق العالم مستقرة وهادئة عدا منطقة الشرق الأوسط ، التي تشهد حروب وصراعات مستعرة ، ولا شك أن اخطر أطرافها القوى الإرهابية التي تضرب بدموية في عدد ليس بالقليل من البلدان العربية والمسلمة ، وامتد إرهابها إلى شعوب البلدان الغربية كفرنسا والولايات المتحدة وبريطانيا.
لقد أثبتت التجارب السابقة في عدد من دول العالم أن القضاء على الجماعات الإرهابية ليس مجديا ، إذ سرعان ما ستنتج البيئة الحاضنة للإرهاب إرهابيين جدد ، فبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 أزاحت الولايات المتحدة نظام طالبان من حكم أفغانستان، إلا إن البيئة الوطنية الأفغانية لا تزال تحتضن التنظيم ، وميزان القوى في هذا البلد يصنف طالبان كقوة سياسية ودينية وعسكرية تشكل خطرا محدقا بالنظام الأفغاني الهش ، ورغم إزاحة نظام المحاكم الإسلامية وإنشاء نظام معترف به دوليا في الصومال إلا إن الجماعات الإرهابية لا تزال تعتبر قوة مسيطرة على مساحات واسعة من هذا البلد.
من ناحية أخرى فإن البيئة العربية لفظت الديمقراطية واعتبرتها جسما غريبا، حيث لم تنجح الحروب والانقلابات وثورات الربيع العربي في التأسيس لأنظمة سياسية مدنية ، فالأمريكيون لم ينجحوا في إقامة نظام ديمقراطي في العراق، واستولت على السلطة الأحزاب الدينية والطائفية، وفشلت مصر في الانتقال للحكم المدني إذ لا تزال تحت هيمنة الجيش ، وفي اليمن لم تنجح ثورة 11 فبراير 2011 في القضاء على حكم العسكريين الزيود ، مما أذى إلى اندلاع الحرب الأهلية التي لم تنتهي أحداثها حتى الان.
إن تغيير النظام السياسي أو القضاء على القوى الإرهابية لن يؤدي إلى القضاء على الإرهاب أو إحداث تغيير ديناميكي ما لم يصاحبهما إصلاح جوهري في البيئة الحاضنة، وهذا هو سر فشل الثورات والانقلابات وتصفية القوى الإرهابية على مدى العقود الماضية.
من بعد آخر فإن الإرهاب الذي تمارسه القوى الظلامية الدينية سواء أكان المنتمون إليها مؤمنون حقا بتعاليمها الدينية أو مستغلين لها لكونها المنظرة والمسوغة لما يقومون به من انتهاكات مريعة ضد الحياة الإنسانية ليس سوى دليل مؤكد على أن حركة الإسلام السياسي في هذا العصر التي بدأت تقريبا منذ منتصف السبعينات من القرن العشرين قد وصلت إلى طريق مسدود وإنها فشلت فشلا ذريعا في التأسيس لحركة عمرانية أساسها سلطة الدين الزمنية المهيمنة على العقل والعلم ، وأن الإرهاب والتعصب والتطرف والتشدد ( بمختلف مستوياتها وتصانيفها) ليست سوى نتائج طبيعية لفشل الحركة الدينية في قيادة الحياة في الشرق العربي ، وتأتي كمحصلة للصراعات المذهبية والطائفية في العصر الحديث التي جاءت أيضا كإحدى إفرازات حركتها وتفاعلاتها السلبية المدمرة على البيئة العربية منذ أكثر من ثلاثين عاما وحتى الان.
إن الصراع المذهبي والطائفي الذي حول المجتمع العربي إلى كانتونات متنافرة عامل من عوامل الإرهاب الذي يعتمد في تغذيته على الاسترجاع السلبي للتاريخ والتراث ، حيث يحتويان على صفحات دامية في العلاقة بين الطوائف والفرق والأعراق ، ساهم في الانتقال السريع للمرحلة النهائية من الصراع ، أي تفجر الأوضاع بالحروب وممارسة الإرهاب بشتى الصور والأشكال.
إن مخرجات الفكر الديني المناوئة للمدنية ، وفشله في احترام الآخر المخالف داخليا ، عاملين من اهم عوامل ترسخ الإرهاب النظري ثم العملي في المجتمعات العربية والمسلمة، ويمكن القول إن هذا الفشل لا يخص مدرسة دينية دون أخرى، وإن الذي يعتقد بأن الإرهاب مقتصرا على أتباع مدرسة معينة واهما حقا، فإلارهاب غير خاص بدين أو قوم ، وإنما هي عوامل إن اجتمعت وتضافرت أنتجت الإرهاب في كل زمان ومكان وبين أتباع كل دين وملة ، إلا إن البيئة العربية والمسلمة بشكل عام تحتوي على العوامل والأسباب والمسببات النظرية والعملية التي تنتج الإرهاب ، وذلك بترسخ التطرف والتشدد الديني والثقافي والاجتماعي والتخلف الإنساني والحضاري والاقتصادي والعلمي الواسع النطاق، وأن شيوع الإرهاب بين أتباع هذه الطائفة أو تلك مرهون بمدى استفحال الفكر المتطرف وخروجه عن السيطرة ، من ذلك هذه الفتوى لأحد مراجع الشيعة حيث يقول فيها: ( غير المسلمين من أي دين أو مذهب كانوا محكومين بالنجاسة).
إن أمثال هذه النصوص تدل على افتقار الفكر الديني لنظم التعايش والتسامح مما يساهم في بروز التعصب ثم التطرف ثم الإرهاب في نهاية الأمر كحصيلة لتراكمات بنيوية على مدى قرون من النشوء والرسوخ.
إن الدين ليس له أن يقود الحياة لأنه إذا أصبح سلطة أو جزء منها فانه يتحول إلى طاقة هائلة لا يمكن السيطرة عليها في اغلب الأحيان ، وهذا ما عانت منه الشعوب الأوربية لقرون طويلة، حيت عطلت سلطة الكنيسة التنمية والأعمار وقتلت آلاف الناس قبل أن تتمكن من كبح جماحها وإعادتها إلى مكانها الطبيعي كمؤسسة مدنية سلمية غير قهرية.
في أمريكا وأوربا تيارات دينية وأيدلوجية وسياسية متطرفة ومتعصبة وإرهابية ولكنها خاملة ضعيفة غير قادرة على أن تسود في مجتمعاتها بسبب بيئتها القوية والمنتجة ، بينما في بلدان الشرق الأوسط فان البيئة الخامدة المليئة بالمربعات السوداء والقيود الهائلة على الإنسان والمليئة بالحفر والمعوقات والتي تعاني من الأمراض والأدران تعتبر ملائمة لترعرع القوى الإرهابية والجماعات الظلامية التي تتغذى على نزيف كوارث التاريخ وإفرازات التراث الملوثة بالتعاليم والنظم والقوانين المشوبة بمشاعر الكراهية السوداء والحقد الأعمى على الآخر المخالف.
إن الشباب العربي والمسلم في أوريا يلتحق بالتيارات الإرهابية ( بالرغم من كل ما يتمتع به من امتيازات وحقوق وحريات) لأنه يعيش تناقض مريع ما بين البيئة الذي جاء منها وبين البيئة التي يعيش فيها، بين ما عليه قومه ووطنه ألام من نظم وقيم وبين ما يحياه من قيم ونظم متناقضة معها ، فيندفع في النهاية لاعتناق قيم البلد الأم والتي تؤكد على أن سبب تخلف وانحطاط قومه هو الغرب الذي يعيش فيه وان السبيل الوحيد لنهضة أمته هو في القضاء عليه.
إلا أني اعتقد أن السبب الجوهري العميق في استفحال الإرهاب في الشرق العربي والإسلامي
يكمن في فشل العرب والمسلمين بشكل عام في الانتقال نحو الحداثة وتجاوز أحداث التاريخ وإرهاصات التراث ، وعدم قدرتهم على تحديث أنظمتهم الدينية والسياسية والاقتصادية والثقافية ، وبالتالي فشلهم في التعامل مع معطيات الحضارة البشرية المعاصرة ، والفشل الذريع من جهة أخرى في حل مشاكلهم وقضاياهم ومعضلاتهم من خلال الاعتماد على أنظمتهم التي لم تحدث منذ مئات السنوات ، لتظهر في النهاية قوة تدميرية راديكالية إرهابية تلقي بلائمة هذا الانحطاط على الآخر المخالف وتحديدا الغرب، وتعتقد بأن الخروج منه يتطلب تدمير الغرب كقوة عالمية والحضارة الإنسانية المعاصرة كصنيعة لها ، واعتبارهما حائلا أمام تقدم وسيادة العرب والمسلمين.
عندما كان العرب متقدمون كانت أنظمتهم قادرة على احتضان الآخر المخالف من خلال نظام تعايش وتسامح فعال، وكانت النظم الدينية متناغمة مع النظم الأخرى بحيث لم تكن عائقا أمام التقدم العلمي ، وكانت النظم والممارسات المتناقضة مع الدين تسير إلى جانبه في وئام بشكل عام
، في خفيفساء إنسانية رائعة أنتجت حضارة متميزة استمرت ما يقارب الأربعمائة عام ، في ذات الوقت فإن المجتمع العربي كانت ترتع فيه القوى الظلامية الرافضة للحضارة إلا أنها كانت ضعيفة وغير مؤثرة ، ولكنها ظهرت بوضوح عندما انهارت الحضارة العربية ، ودخلت في صراع مع القوى التنويرية لعدة قرون حتى سادت في نهاية الأمر وأنتجت ما يعانيه العرب والمسلمون اليوم من الإرهاب والعنف والتطرف والتشدد وكافة المظاهر والأمراض التي تقف حائلا أمام الأعمار وبناء الإنسان.
لا يمكن تجاوز التاريخ ولا يمكن القضاء على التراث ولكن يمكن بدا صناعة تاريخ جديد وإعادة بناء قيم جديدة قائمة على الحضارة المعاصرة من جهة والهوية الإنسانية والشخصية التاريخية العربية ، المسيحيون من كاثوليك وبروتستانت وغيرهم لم يغيروا اعتقاداتهم المذهبية ، ولا تزال آرائهم العقائدية كما هي، لم يمحوا تاريخ الصراع بينهم ولا زالت أجيالهم تقراه بكل موضوعية وشفافية، إلا أنهم يقرؤونه لتجنب إعادة أحداثه وللحفاظ على مكتسباتهم وانجازاتهم وحضارتهم، بينما يقرأ العرب تاريخهم لإسقاطه على واقعهم ولإعادة إحياء أحداثه مرة أخرى.
الأمريكيون يحتفلون بعيد الشكر بفرح وبهجة وسرور بالرغم من جذوره الدينية المتصلة بالصراع بين المذاهب المسيحية.
وبينما ينحصر الحوار الديني في الغرب بين الباحثين ورجال الدين في الكنائس والمعاهد العلمية الأكاديمية يتفشى الصراع الديني في الشرق العربي بين العديد من طبقات المجتمع في الشوارع والأزقة والمجالس والمقاهي!.
لعل الإرهاب العاتي والعنف الأهوج في العالم العربي ليس سوى مخاض الانتقال نحو الحداثة، ممانعة لا واعية لذلك الانتقال الصعب، لتلك العملية القيصرية التي لا بد منها للخروج من اسر التاريخ وأغلال التراث المليء بالشوائب والإرهاصات الفتاكة، لإنهاء السلطة الزمنية للدين والفصل بينه وبين الأنظمة المركزية الأخرى في البيئة العربية ، وإعادة صياغة العلاقة بينه وبينها على أساس الاستقلال والتوازن.
إن على العالم أن يساعد العرب للانتقال نحو الحداثة وإلا فإن الإرهاب القادم من الشرق قد يضرب بقاع عديدة من العالم ، وأن التوقف عند تدمير القوى الإرهابية لن يؤدي إلى دحر الإرهاب وتجربة ألمانيا خير شاهد على ذلك، فلو اكتفى الحلفاء بالقضاء على النظام الهتلري ولم يساعدوا الألمان في إعادة البناء وتشييد نظام حياة جديد قائم على التعايش والتسامح والحرية وتجاوز الماضي البشع الذي خلفه لهم النازيون والمأساة المروعة التي سببتها سياستهم الدموية والعدوانية لأنتجت البيئة الألمانية نظاما نازيا جديدا لا يقل دموية وحقدا عن النظام الهتلري.
إن على الغرب الأوربي والأمريكي أن يختار إما أن يساعد العرب للوصول إلى الحداثة والاندماج الحضاري ليكونوا شركاء في التنمية البشرية والنهضة الإنسانية ، وإما أن يواجهوا على الدوام خطر الإرهاب القادم من الشرق.

قد يعجبك أيضاً

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.