الرئيسية » تحرر الكلام » توقيع على ذكرى ثورية!

توقيع على ذكرى ثورية!

كنتُ أتعجب لكلمة صافية ألقاها صديق ذات مرة بصورة مباغتة، أراد اشعارنا بإننا ما نزال نسيجاً واحداً في بداية الغربة رغم مضي الأقدام عن وطن وأحلام.. ودروب أيام.. وشكنا الدائم الكبير في امكانية عودتنا إلى سنوات الطفولة .. وخطونا نحو الأحلام الأولى، كنا مئات لم يحتوينا المكان.. ولم يأنس إلينا، وإن كنا قرب أسوار القسطنطينية، في مثل هذا المكان كانت لنا بطولات اختفتْ اليوم في وهران، تونس، طرابلس الشرق والغرب، أبها، كوم أمبو، سرت، جنوب السوادن، ومدن وقرى مازلت تحلم بالتغيير ..
كان المحاضر العفوي يقول لنا: إن عمر التطهر وإحقاق الحق في العالم ودنيانا قليل، وإن خطونا على المسير الكامل ما تزال بعيدة، وإننا مهما أحببنا الصبح والتطهر سيظلان بعيدين عن الاحتفاظ بهما بين أيدينا ..كنتُ تعجبتُ من قوله لكن لما استحضرتُك زال عجبي تماماً..
بعد الكلمات عشتُ أياماً طويلة أحلم بلقاء بلدي، أنام مساءً فأعانق النيل والفرات، الخليج العربي والبحر الأبيض، أرى كل بلاد العروبة تتلألأ بين أحضاني .. فقط لإن ثورية محبة للخير ولازدهار بلدان تعبتُ من الحلم بابتسام شفتيها، فحققتْ لي كثيراً من آمالي، وتواضعتْ فقالتْ:
ـ هذا بعضٌ مني لديك!
ذلك فقط لإن ثورية بالغة التفاني وضعتْ ابتسامة، مثلى، بالمقاس على فم العالم كله، لم تكن ثوريتي لترضى بأقل من ابتسامة على شفتيّ كل معوز، وزهرة ندية غير مقطوفة من شجرتها، وتعرف وجه كل متألم، وفك أسر كل سجين مظلوم ووضع سجانه مكانه، لم تكن فتاة ثورتي الناشطة الإنسانة قبل الثورية لترضى بأقل من بسمة على شفتيّ كل محروم من الحنان، وابتسامة كبرى فوق وجه كل متأمل نهضة وازدهار لبلده ..
عرفتُها لؤلؤة من حب تغيير في أحياء محيطة بالمسجد الأموي، وببوابة زويلة، وعند أطراف مسجد عقبة، وغير بعيد من رواق جامع عمر المختار، وتحت حماية مسجد العزيزية .. عرفتها نكهة نسمة ربيعية في قلب الصيف وقارص الشتاء، سآلتُها مراراً:
ـ هل أنا حينما أراك على قيد الحياة أم إنك حياة لكن بديلة؟!
كم صمتتْ وابتسمتْ محتوية مرارات بوعزيزي وخالد سعيد الحقيقي.. ومدفأة حمزة الخطيب.. وآلاف الأطفال الشهداء في سرت وأبين وبغداد ودمشق والقاهرة .. كم أدفأت له قلبه .. وهو يصرخ بقربها الناس يقولون إنك لستِ واقعاً وإنما انت حُلماً بنفسي فقط؟! .. قالتْ في غير تلجلج:
ـ ذلك لإنني فكرة في طيّات ضميرك ..توقن الروح منك إنني قادمة إليك .. لذلك تراني وتعاملني .. ألا إن مسيرة الأيام قادمة بي إليك ..
لحظة تأسى لحال بغداد .. وبكى لدمشق.. وشقت صدره القاهرة .. وفاضت الروح منه أو كادت لدى عدم تغير العناوين في تونس.. وتشتتْ النفس لدى حال طرابلس في موضعين من بلاد العرب.. لحظة رأى صنعاء تعاني الحرمان كما كانت.. لحظة أيقن إن طهران ما تزال تعيس فساداً في الأرض .. لحظة عانق رواق بيت المقدس .. واستفاقتْ الروح لدى أسئلة مبهمة مستقبلاً .. وحسرة واقعه .. لحظتها فطن إلى إن الثورية التي أرادها حُلماً في الضمير وفي جوف التكوين منه بعد لم تأت..
في قرابة الذكرى الرابعة لها لم يعد يعرف أهي القاهرة أم تونس أم دمشق أم صنعاء .. أم هو هي؟!
ولكن كل ما يدريه إن أفضل آية في كتاب الله، وفق جهاز الاستقبال الخاص بروحه ..بعد لم يسمع خير آية في كتاب الله بالنسبة إليه، وخير قطرة وعي في جوف ملايين من أبناء الأمة بعد لم تولد، أفضل كتاب بعد لم يقرؤه، خير رواية لم تبدعها قريحة كاتب، خير رواية بعد لم تخطر على باله، أفضل صديق قادم في الطريق لم يلتقه بعد، خير مدينة في الوجود بعد لم يرها فضلاً عن يزورها، افضل بيت شعر بعد لم تقع عيناه عليه، أجمل غابة في الوجود بعد لم تكتحل عيناه بشجرها، أجمل نهر لم ير شلاله، افضل حديقة لم يزر خضرتها، وأجمل وردة لم تهدها البشرية إليه ..
في بلدنا جميعاً لم يأت وقت أوان لقائنا فلا تستعجليه ..
في ذكراك قرب الرابعة أهدي ثراً وتراباً خطوتِ فوقه السلام ذلك لإنه سرى بروح كالأحلام ..فبعث أمنيات كانت عزيزة حلوة لطفتْ بالنفس إذ عصفتْ ببركانها الثورات المضادة .. والانقلابات الحقيقية والناعمة على محاولات تحرر حقيقية أو شبه ..فهدأتْ من أثرها.. في ذكرى أمنيات حملتِها خطوك فما تحققتْ ولا لانتْ .. وظلمتِها إذ بعثتِها في نفوس من القاهرة حتى بيروت مروراً بالأقصى والمسجد الحرام، أمنية أن تفيق بلادنا من طوفان الدماء، في ذكرى خطو المشردين المطاردين في القاهرة ودمشق وبغداد والقدس وصنعاء .. أو إذا شئنا الدقة من تلك المدن طردوا وهُجروا وما تزال في الطريق مدن أخرى!
في ذكرى عزيزة على قلب ونفس لم تتأهل بك إلى السعادة، وأتعبها الخفاء فيك، وآلمها الصمت وباعة الليل يتدثرون في صورة حكام وأوهام، ورغبات صغرى وغير هذا انغمستْ فيها فضيعتْ ألقك .. واستباحتْ حماك .. وجعلتْ أماكنك ودورك .. حتى المخصصة للعبادة على غير المثال المنتظر .. فإذا جئتِ لاختبار المحبة والتحرر من آسف رسبتْ ..في ذكرى استمرار نكد سرقتك وعدم احترامك لمواطنيك لما تفشتْ أدواء الجهل والأمية في غالب طبقات ترابك، في ذكرى استفحال الأمراض المتوطنة لديك .. مجازاً وحقيقة .. في ذكرى خيبة آمال الملايين في إمكانية تهذيبك للحاق بقطار النهضة على أمل تحقيق تقدم تأخر عنك أكثر من نصف قرن استكنتِ فيهم إلى العسكر .. ولم يفطن الشرفاء منك وفي مسامك إلى لعبتهم.. في ذكرى خداعك وخداعنا، حيث لم نزل إلى اليوم، أيا غالية، اثنين.. أنت وطن .. وأبناؤوك مواطنون .. لا كما تحلم دول تخطتْ في الحياة حاجز الصوت الخائن لما تصبح هي ومواطنيها جسداً واحداً في روحين ..
في ذكرى استمرار الحلم في أن تكوني كما هوتْ وأحبتْ الملايين من البحرين وأبو ظبي حتى مكة والمدينة .. مروراً بالفسطاط ومصر القديمة، وعند أبواب أحلام الجزائر ووهران .. في تلكث
الذكرى العامرة المضيئة .. ينقل لك كبير الإعزاز لنفخة علوية إلهية فيك .. شقّتْ بك شوارع ودروباً، حواري وأزقة، مستشفيات وسُبلاً، بلاداً ونجوعاً، طبقة حاكمة لا ترع الله .. ومحكومين على أمرهم مغلوبين ..وكتباً يقرأ المواطن فيها نصف صفحة على الأكثر في العام .. ووعياً ممحواً لا يشي بتحرر إلا لو لطف بنا الفنان الأعظم سبحانه ..
في ذكرى اندحارنا فيك . .وحقيقة تفجير فتى محب لنفسه روحه عند أعتاب الأقصى لعله يحرره من دنس الأنذال يطوفون به .. في ذكرى بقاء كل شىء في مكانه . واستفحال قلة الأمل في بلادنا .. تتعجب المدن من حديثك عن الصمت والصبر والرضا بالواقع .. أبليتِ بلاء حسناً لا يناسب عصرنا .. فدعي لنا مدننا .. أزيلي من حلمك الالتحام بها .. فقد علمنا وأدركنا أنك لم تكوني تستحقين الحلم .. ولم تعيني الواقع على تجاوزه .. اطرحي حلمنا بك بعيداً .. ودعي الواقع لنا فلعلنا نعالجه بلغة ونكهة ثورية جديدة!

قد يعجبك أيضاً

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.