وطن _ العرب على هامش ذاكرة التاريخ ووعيه الكفاحية من أجل الاستمرار وامتصاص الأزمات :
طور جديد انتقلت إليه الحضارة الإسلامية ، لقد قويت واشتد عودها وتعددت نماذجها وأشكالها ، التي أصبحت جماعاً لإسهامات العديد من الأعراق والعناصر في مناطق مختلفة من الأرض ، لقد برزت الحضارة الإسلامية في شكل نظامي واحد هو الدولة الإسلامية ، لقد استهدفت خاصية الكفاحية التي اكتسبتها الحضارة الإسلامية من عقيدة التوحيد طيلة الفترة التي سبقت الطور الجديد ، التعاطي مع البيئة الصعبة والانطلاق منها ، ثم الخروج إلى عالم الآخر وحمل الدعوة وتوصيلها وتبليغها ، ثم تثبيت السمة الإنسانية وتعميقها لدى العناصر والأعراق التي ساهمت في تشييد صروح الحضارة الإسلامية ، ثم تحديد الهوية الإسلامية لتلك الحضارة التي ارتسمت في دولة عظيمة مترامية الأطراف لها هيبتها وقوتها .
عندئذ كان على الحضارة الإسلامية ودولتها الفتية أن تواصل تطوير خاصية الكفاحية لكي تتجه إلى تحقيق أهداف جديدة ، تمثل أول تلك الأهداف في الحفاظ على الشكل النظامي لتلك الحضارة وهو الدولة ، ثم تطوير مقومات ونماذج وأشكال حضارة الإسلام وهو ما يعرف إجمالاً بالكفاحية من أجل الاستمرار ، أما ثاني تلك الأهداف فقد تجسد في القدرة على امتصاص الأزمات التي تعرضت لها الحضارة الإسلامية .
لقد استهدفت الكفاحية الحضارة الإسلامية في هذه المرحلة الجدية الحفاظ على تلك الحضارة وشكلها النظامي ، إنها الكفاحية من أجل الاستمرار ، الكفاحية ضد الانقطاع ، ومن أجل التطوير ، ولقد قدّر لتلك الكفاحية النجاح ولكن إلى حين ، وبعد حين من الدهر أصاب تلك الكفاحية إخفاق لازمها طويلاً .
كذلك كان على الحضارة الإسلامية أن تكافح من أجل امتصاص الأزمات التي تعرضت لها والإخفاقات التي واجهتها ، وقد حققت في هذا المسعى نجاحاً لا بأس به حفظ لها كيانها ، وأكسبها القدرة على الصمود ولكن أيضاً إلى حين .
في هذا المقال نعكف على دراسة سمة الكفاحية التي اتسمت بها الحضارة الإسلامية بعد أن ارتسمت معالمها وتحددت هويتها وتشكّلت في دولة ، وذلك على النحو التالي :
أولاً : الكفاحية من أجل الاستمرار وتطوير الذات :
رسخت الحضارة الإسلامية أركانها ، وثبتت أسسها ، وبرز شكلها النظامي في دولة قوية مترامية الأطراف مرهوبة الجانب ، تضم أعراقاً وعناصر شتى ذابت جميعها في بوتقة الإسلام وعقيدة التوحيد ، عندئذ كان على الحضارة الإسلامية أن تستمر في كفاحيتها التي تستمدها دوماً من العقيدة من أجل أهداف ومقاصد اختلفت عن ذي قبل ، ومن ثم فقد أصبحت كفاحية الحضارة الإسلامية متجددة الأهداف ، لقد أصبح هدف الحضارة والعقيدة معاً الاستمرار وتطوير الذات ، ويمكننا مناقشـة هذه الوضعية الجديدة للحضـارة الإسلامية فيما يلي :
أ : الكفاحية من أجل الاستمرار :
لقد كافحت العقيدة الخالدة ومعها الحضارة العظيمة من أجل إقامة تلك الحضارة وتثبيت أركانها ، وقد قدّر لها ذلك ، وعليها الآن أن تكافح من أجل إقرار الأمر الواقع وإبقاء الأمور على ما هي عليه أطول فترة ممكنة ، ولكن سنة الله في الكون تأبى إلا الحركة والتطور دوماً ، وقد اشتملت الكفاحية من أجل الاستمرار على ثلاثة مسائل أساسية تمثلت في الآتي :
(1)الاستمرار في الدعوة لعقيدة التوحيد : من المسائل التي أبرزت إصرار العقيدة والحضارة ومضائهما هي مسألة الاستمرار في الدعوة لعقيدة التوحيد وللحضارة الإسلامية ، وقد شهدت هذه المسألة ازدهراً خلال فترة الخلافة الراشدة وعصر بني أمية ، وخلال خلافة العباسيين توقفت وتحولت إلى الدعوة السلمية للعقيدة في أطراف الدولة الإسلامية ، وقد بلغت الدعوة للعقيـدة أوج تقدمها في عهد بني أمية ، ثم تحولت إلى تثبيت مقومات أخرى في الحضـارة الإسلاميــة في عهد العباسيين .
(2)الحفاظ على الشكل النظامي للحضارة (الدولة الإسلامية) : لابد أن تبدو الحضارة في شكل نظامي حتى ولو كان بسيطاً ، والشكل النظامي قد يكون قبيلة ، وقد يكون دولة مدينة ، أو دولة إمبراطورية ، وقد برزت الحضارة الإسلامية في شكل دولة منذ بزوغها إلى حيز الوجود مرتبطة بعقيدة التوحيد ، وكانت تلك هي دولة المدينة المنورة التي تطورت إلى دولة واسعة مترامية الأطراف في عهد بني أمية ، ثم أخذت بعد ذلك تضيق وتتسع وفق عزيمة القائمين على أمرها ورغبتهم في نشر العقيدة وقدرتهم على ذلك .
وكان على الحضارة الإسلامية منذ عهد الخلافة الراشدة واتساع رقعة الدولة وامتدادها أن تجتهد من أجل الحفاظ على شكلها النظامي الذي هو الدولة الإسلامية وقد كُللت كفاحية الدولة الإسلامية ومن ورائها حضارتها الفتية بنجاح ملموس في الحفاظ على دولة الإسلام طيلة عهد الخلافة الراشدة وعهد بني أمية والعصر العباسي الأول ، إلا أنه في العصر العباسي الثاني بدأت تعديات الأمم الأخرى تترى على حضارة الإسلام ودولته ، وافتتحت تلك التعديات بالخروج الأوربي الأول المتمثل في الحملات الصليبية ، ثم بالهجمة المغولية التي أنهت الخلافة العباسية في مأساة مروعة ، وبدأت أزمات الحضارة الإسلامية تستفحل بشكل لم يسبق له مثيل .
(3)الاتجاه نحو التركيز على أبعاد ومقومات معينة في الحضارة الإسلامية :عندما استقر المسلمون منذ أواخر العصر الأموي وطيلة العصر العباسي ، وسكنوا المدن وعمروا الحواضر ، تحولت انطلاقة العقيدة الإنسانية العالمية المكافحة وحضارتها العظيمة من حمل وتوصيل وتبليغ الدعوة بالفتح إلى جوانب أخرى من جوانب الحضارة الإسلامية وهي المدنية والعمران والعلوم والمعارف وبنفس الروح الكفاحية الإنسانية العالمية .
وهنا لا ينبغي أن نغفل دور العقيدة المكافحة وما كانت تبثه من وقت لآخر في الحضارة من عزيمة وتصميم على الاستمرار والحفاظ على ما حققته من إنجازات في كافة المجالات .
بً : الكفاحية من أجل تطوير الذات :
كافحت حضارة الإسلام بدعم وتحفيز من عقيدة التوحيد من أجل الاستمرار والحفاظ على كيانها ، كذلك كان عليها أن تكافح من أجل تطوير الذات ، وذلك من خلال مجموعة من المجهودات تمثلت في الآتي :
(1)تعصير الأصول والقواعد : منذ خلافة الخليفة الراشد عمر بن الخطاب والحضارة الإسلامية شرعت في تطوير ذاتها ، وكان تطوير الذات يعني تخول الأصول والقواعد المستنبطة من مصادر الشريعة الأصلية التي سبق الحديث عنها بالتبيان والتوضيح والشرح والتفصيل ، بما يجعلها دوماً في معية الناس وحاضرة بينهم ، تعالج قضاياهم وتضبط سلوكاتهم وتحكم علاقاتهم وتفاعلاتهم ، ويعني على الجانب المقابل معايرة وقياس كافة المتغيرات وجميع المستجدات من الأفكار والسلوكات وفق تلك الأصول والقواعد بوصفها المتقدم .
وقد تدرجت عملية تعصير الأصول والقواعد في الاتساع والعمق منذ خلافة عمر بن الخطاب بشكل واضح ، ففي عهد الخلافة الراشدة كانت في بدايتها ، واتسمت بالمحدودية ، وذلك راجع إلى الالتزام المطلق للخلفاء بالشرع الحنيف المتمثل في القرآن والسنة وممارسات نموذج دولة الرسول الأعظم ، وراجع أيضاً إلى ندرة المستجدات والمتغيرات التي مثلت خروجاً على الأوضاع السائدة في دولة الرسول صل الله وسلم .
وفي العصر الأموي بدأت عملية تعصير الأصول والقواعد في البروز والعمومية والشمول حيث كثرت القضايا المستجدة والمتغيرات الحادثة في كافة أمور وجوانب الحياة ، وبصفة خاصة الظاهرة السياسية وقواعد الحكم وأصول السياسة في الإسلام ، مما حدا ببعض كبار الصحابة والتابعين إلى العودة إلى الأصول والقواعد واستحضارها وتكثيف الضوء عليها والتنبيه والتأكيد على حتمية الرجوع إليها في ذلك العصر الذي انتهكت فيه الكثير من تلك الأصول والقواعد التي تضمنتها المرجعيات الأساسية المتمثلة في القرآن والسنة ونموذج دولة الرسول الكريم .
وفي العصر العباسي تزايدت وتعمقت وتيرة عملية تعصير عملية الأصول والقواعد بالشكل الذي أوضحنا من قبل ، نظراً للاتجاهات التي اتجهت إليها الحضارة الإسلامية والتي استهدفت التركيز على أبعاد ومقومات جديدة وتطوير أخرى قديمة مثل : نماذج وطرز العمران والمدنية والعلوم والمعارف ، بالإضافة إلى القضايا والمسائل المطروحة من قبل مثل أصول وقواعد السياسة والحكم وغيرها من الظواهر الاقتصادية والاجتماعية والإدارية التي استجدت في العصر العباسي.
وبعد أن انهارت الخلافة الإسلامية في بغداد توقفت تماماً عمليات تعصير الأصول والقواعد كإحدى مظاهر كفاحية الحضارة الإسلامية من أجل الاستمرار وتطوير الذات ومن ثم حدثت عملية انقطاع وتوقف بين الأصول والقواعد المنظمة لحياة المسلمين والمعاجلة للمتغيرات والمستجدات وبين تطورات الحياة الاجتماعية وتفاعلاتها في المجتمع الإسلامي ، وكان ذلك يمثل إحدى أزمات الحضارة الإسلامية التي لازالت تعاني منها ، وسوف نوضحها في مقال مستقل .
(2)تطوير نماذج وأدوات الحركة : للحضارة الإسلامية نماذجها وأدوات حركتها ، من أنظمة وتنظيمات وإجراءات يمارس المسلمون من خلالها كافة مجالات حياتهم من سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وفكرية إلى آخره ، وهذه النماذج والأدوات وُضعت أصولها وأُسست قواعدها منذ دولة المدينة المنورة ، وكان على تلك النماذج والأدوات أن تتطور باستمرار بما يستوعب المتغيرات والمستجدات وفق سنن تطور المجتمع الإنساني .
وقد شهد عصر الخلافة الراشدة دفعة قوية فيما يتعلق بتطوير نماذج وأدوات الحركة وبالذات في النواحي الإدارية والاقتصادية ، أما النـواحي السيــاسية ، فقد حافظ الخليفتان الأول والثاني على النماذج والأدوات الموروثة من دولة المدينة ، في حين حدث كثير من الاختلاف في عهد الخليفتين الثالث والرابع وكان ذلك سبباً مباشراً في حدوث الفتنة الكبرى في عهد عثمان بن عفان والتي امتدت لتمزق كيان الدولة الإسلامية في عهد علي بن أبي طالب ، وما ذلك إلا عجزاً وقصوراً واضحاً عن تطوير نماذج وأدوات الحركة السياسية بما يتواءم مع المستجدات والمتغيرات ، ويتوافق مع الأصول والقواعد التي أقرها الرسول الكريم في دولة المدينة .
أما في العصر الأموي فقد حدث تطور لا بأس به فيما يتعلق بأدوات ونماذج الحركة حيث تم تطوير العديد من النماذج والأدوات ، وابتُكرت نماذج وأدوات جديدة لتطويع المستجدات واحتواء المتغيرات التي حدثت في العصر الأموي في كافة مجالات الحياة ، وقد كان مقصد تلك النماذج والأدوات هو معالجة كثير من القضايا والمتغيرات السياسية والاقتصادية والإدارية والاجتماعية بما يتفق ورؤية الأمويين ومنهجهم في السياسة والحكم .
وقد أخذ العباسيون نفس المنحى ، حيث طوروا وابتكروا من النماذج وأدوات الحركة ما استوعب المستجدات والمتغيرات التي طرأت في زمانهم وبما يتوافق مع رؤيتهم ومنهجهم في السياسة والحكم ، إلا أن الكثير من تلك النماذج وأدوات الحركة قد توجهت لاحتواء ومعالجة العديد من الأبعاد والمقومات المستجدة في الحضارة الإسلامية مثل المدنية والعمران والعلوم والمعارف وغيرها من المسائل المعاصرة .
وبعد العصر العباسي أخذت مسألة تطوير نماذج وأدوات الحركة كإجراء من إجراءات الحضارة الإسلامية لتطوير الذات منحى مختلفاً ، فقد تطورت تلك النماذج والأدوات ولكن لما يعكس مظاهر وأشكال التفكك والانهيار اللذين أصابا الدولة الإسلامية وحضارتها ، وبما يعكس كذلك ظاهرة العنصرية والإقليمية ، حيث استقلت كل قومية بجزئية من الدولة الإسلاميـة ، وأبرزت موروثاتها الحضارية والثقافية على الحضارة الإسلاميـة ، وكانت هذه إحدى الأزمات العصيبة التي واجهتها الحضارة الإسلامية .
ثانياً : القدرة على امتصاص الأزمات :
هذا الموضوع وما يتناوله من قضايا ومسائل يعكس ظاهرة الكفاحية التي أخذتها الحضارة الإسلامية من عقيدة التوحيد في أجلى صورة وأوضح مثال ، ويمكننا متابعة الأزمات التي تعرضت لها الحضارة الإسلامية منذ تبلورها في شكل نظامي رسمي في دولة المدينة وحتى فترة الانقطاع التي حدثت في نهاية الحكم العباسي بانهيار ذلك الحكم والخلافة الإسلامية ، كما يمكننا تبيان كيف تمكنت حضارة الإسلام من امتصاص تلك الأزمات ، وتوضيح ذلك فيما يلي :
أ : تحديات الحضارة الإسلامية :
منذ نشأتها مقترنة بالعقيدة الإنسانية العالمية المكافحة والحضارة الإسلامية تجابه جملة من التحديات ، منها ما صاحبها منذ تلك النشأة ومنها ما طرأ أثناء تطورها ، ونستعرض ذلك فيما يلي :
(1)تعدد العناصر والأعراق : منذ أن خرجت الحضارة الإسلامية من نطاق العنصر الواحد وهو العنصر العربي إلى نطاق العالمية ، وهي تعاني من تعدد العناصر والأعراق التي انضوت تحت لواء عقيدة التوحيد ، وكان لهذه التعددية مخاطرها التي تمثلت في رغبة كل عنصر في لعب دور القيادة بالعناصر الأخرى ، وهذا أمر طبيعي ، فالعالمية تعني اشتراك عناصر عديدة في اعتناق عقيدة واحدة ، والإسهام في تشييد الحضارة التابعة لتلك العقيدة ، وكان ذلك يستلزم كفاحية جبارة من العقيدة والحضارة معاً من أجل إذابة العناصر في بوتقة واحدة ، وإخراج مزيج يمثل الإسلام وحضارته ، ومن ثم تحويل التعددية من نقطة ضعف إلى مكمن قوة ، عندما تتكتل جميعها خلف العقيدة الخالدة وحضارتها العظيمة ، وكان ذلك يتحقق في معظم الأحيان ، إلا أنه ظل يمثل تحدياً يواجه الحضارة الإسلامية ، وقد يفت في عضدها .
(2)تعدد الموروثات الحضارية والثقافية : صاحب التحدي الأول المتمثل في تعدد الأعراق والعناصر البشرية وطموحاتها المتمثلة في القيادة والظهور على العناصر الأخرى تحدي آخر تمثل في أن تلك العناصر والأعراق قد صحبتها وعاشت في ذاكرتها بشكل مستديم موروثاتها الحضارية والثقافية التي ورثتها عن فترة ما قبل دخول الإسلام وانضوائها تحت لوائه .
وقد كانت تلك الموروثات كأنماط حضارية أو منظومات ثقافية تطل برأسها من وقت لآخر ، وتُلهب حماس العناصر المختلفة ، وتؤجج ذاكرتها وانجذابها لتلك الموروثات ، وتزيد من طموحاتها ورغباتها في قيادة وريادة العناصر الأخرى ، حيث يتراءى لها أنها الأجدر والأحق تأسيساً على ماضيها التليد وتاريخها العريق .
وكان ذلك يمثل تحدياً خطيراً للحضارة الإسلامية فرض على تلك الحضارة وكذا ثقافتها كفاحية تمكنها من إرضاء غرور تلك العناصر والأعراق وإعجابها بماضيها ، من خلال ابتكار حضارة وثقافة من الاتساع والتسامح بما يستوعب تلك الموروثات ويطوعها في هدوء وسلاسة ولا يشعرها بالغبن والتسلط من الحضارة الإسلامية ، وقد قدّر لتك الكفاحية النجاح إلى مدى بعيد إلا أن ذلك كان يمثل تحدياً مؤرقاً للحضارة الإسلامية .
(3)سياج القيم والأخلاق الإسلامية : ذكرنا مراراً أن أهم ما يميز حضارة الإسلام هو اعتمادها المطلق على نسق صارم من القيم والأخلاق استمدته من عقيدة التوحيد ، واعتمادها كذلك على تقديم وترقية البعد الروحي على البعد المادي ، وكان لهاتين السمتين دورهما العظيم في الحضارة الإسلامية وتميزها وتفردها بشكل مطلق ، ولكن هاتين السمتين كانتا تصطدمان دوماً بأفكار وسلوكات المسلمين كأفكار وسلوكات بشرية جامحة تريد أن يطلق لها العنان كما هو حال المجتمعات البشرية غير الإسلامية ، وكان من شأن ما تقدم أن يقيم حالة من الصدام الدائم بين أفكار وسلوكات المسلمين كبشر وبين سياج القيم الإسلامي ، وعليه كان على حضارة الإسلام وثقافته كذلك أن يكافحا من أجل تطويع الأفكار والسلوكات البشرية مع ذلك السياج من القيم والمبادئ والأخلاق حتى يحدث نوع من الألفة والتناغم بين ذلك السياج والفكرة والسلوك البشري بما يحولهما من تحدي إلى دافع وحافز في اتجاه سيـادة القيم والمبادئ الإسلامية ، وقد حافظت الحضارة الإسلامية والثقافة الإسلامية على تلك الكفاحية التي ضمنت لهما الاحتفاظ بمرجعية نهائية للنسق القيمي الإسلامي .
(3)شراسة المنافسين : من التحديات العنيفة التي واجهت الحضارة الإسلامية هي شراسـة المنافسين ، فالحضارة الإسلامية منذ نشأتها وهي تواجه منافسين أشداء أقوياء شرسين في صراعهم ، برز ذلك منذ الانطلاقة إلى الأحياء العربية ، حيث كانت عداوة العرب للعقيدة الجديدة ولحضارتها شرسة ، ثم كانت عداوة اليهود والمنافقين كذلك ، وعلى نفس الوتيرة كانت منافسة الفرس والروم ، ثم برز الصراع مع الروم كصراع مزمن مع الحضارة الإسلامية ، تلا ذلك صراع الحضارة الإسلامية مع الصليبيين والمغول .
لقد كان ذلك التحدي يتطلب من الحضارة الإسلامية كفاحية من نوع خاص تجمع بين الاستعداد الداخلي والقدرة على إدارة الصراع العضوي (الصراع المسلح) مع جميع المنافسين الذين عددناهم أعلاه ، ونرى أن هذا التحدي كان في كثير من الأحيان يمثل عنصر تقوية ودعم للحضارة الإسلامية ، وكان في أحيان أخرى يشكل عنصر إضعاف ظهرت انعكاساته السلبية بعد انهيار الخلافة العباسية ودخول الحضارة الإسلامية في طور التفكك والانهيار ، وهو ما عُرف بفترة الانقطاع .
ب : أزمات الحضارة الإسلامية :
التحديات التي تحدثنا عنها فيما سبق عبارة عن اختلالات مزمنة مصاحبة للحضارة الإسلامية تتطور معها باستمرار وتظهر وتختفي حسب الظروف ، أما الأزمات فهي اختلالات وقتية طارئة تظهر وتصيب حركة الحضارة ، ثم تبرز لها قوى مضادة ناتجة عن كفاحية الحضارة ، تعالج تلك الاختلالات وترأب الصدع الذي تخلفه ، ويمكننا تناول الأزمات التي تعرضت لها الحضارة الإسلامية في الآتي :
(1)أزمات عرقية عنصرية : كان أول الأزمات التي ظهرت في واقع الحضارة الإسلامية هي الأزمات العرقية العنصرية ، وذلك لأن حضارة الإسلام – كما سبق وأوضحنا – هي حضارة عقيدة ، ومعتنقو هذه العقيدة هم بناة تلك الحضارة ، ومن ثم فالفاعلون في تلك الحضارة هم أول الأزمات التي واجهتها ، وبصفة خاصة العلاقات فيما بينهم ، لأنهم يمثلون عناصر وأعراق مختلفة ، وقد صاحبت هذه النوعية من الأزمات الحضارة الإسلامية منذ نشوئها ، وتطورت على النحو التالي :
*في النطاق العربي ( القبلية ) : في دولة المدينة أول شكل نظامي رسمي لنواة الحضارة الإسلامية ظهرت القبلية ، وكان انتماء كل فرد لقبيلته يسمو على انتمائه للعقيدة الجديدة ، وبرزت أول تعبيرات الكفاحية في العقيدة وحضارتها حيث بذل الرسول الكريم جهوداً جبارة من أجل المؤاخاة بين القبائل المختلفة من الأنصار ، ثم بين المهاجرين والأنصار ، وكانت النتائج مبهرة حيث برز ذوبان الرواد الأوائل في العقيدة وتفضيل الانتماء إليها على أي انتماء آخر مهما كان .
*في النطاق الإسلامي ( العرقية والعنصرية ) : بعد الانطلاقة الكبرى والخروج إلى عالم الآخر انضوى تحت لواء الإسلام الكثير من الأعراق والعناصر ، ومن ثم برزت الانتماءات العرقية والعنصرية ، وبدأت تنافس الانتماءات للعقيدة وحضارتها ، ثم برزت المنافسات الحادة بين العنصر العربي وبين غيره من العناصر ، والمنافسات بين العناصر غير العربية وبعضها ، وقد كان من الصعب التصدي لهذه الأزمة وعلاجها بل لعلها من أقسى الأزمات وأشدها إيلاماً لجسد الحضارة الإسلامية ، حيث كانت سبباً في تفريق جهود أبناء الأمة وتشتيتها ، لقد كان كل عنصر يسعى بقوة وعنف نحو السيطـرة على العناصر الأخرى ، وأن ينسب لنفسه الريادة ، بل وينسب الحضارة الإسلامية كلها لنفسه ، فبتنا نسمع عن الحضارة الإسلامية الفارسية والحضارة الإسلامية التركية ، والحضارة العربية الإسلامية ، والحضارة الإسلامية المغولية .. إلخ .
إن واقع وطبيعة الحضارة الإسلامية يفرضان ظهور هذا النوع من الأزمات وذلك لتجمع عناصر وأعراق عدة تحت لواء حضارة واحدة تجمع كافة تلك العناصر والأعراق بكل ما لديهم وما بصحبتهم من موروثات حضارية وثقافية قلما تسقط من وعيهم الجماعي أو ذاكرتهم العامة ، إن هذه الأزمة كانت تتطلب نوعاً من الكفاحية المثابرة التي كانت تُفلح مرة وتُخفق مرات .
(2)أزمات إقليمية : كذلك عانت الحضارة الإسلامية من أزمة الإقليمية التي تبلورت في الرغبة الدائمة لدى الكثير من المناطق الإقليمية الجغرافية للانفصال عن جسد الدولة الإسلامية والتنصل كذلك من حضارة الإسلام بهويتها الإسلامية الخالصة ، في مقابل بروز الخصائص والسمات الإقليمية التي تميز تلك المناطق قبل انضوائها تحت لواء الإسلام ، وقد بُذلت جهود جبارة من مركز الدولة الإسلامية لمعالجة واحتواء تلك الأزمة والسيطرة على المناطق المارقة ، وقد اقترنت هذه الأزمة بأزمة العرقية والعنصرية ، ولعبتا معاً دوراً لا يُنكر في إصابة الحضارة الإسلامية بحالة من الإعياء انتهت بها إلى حالة الانقطاع التي هي عليها الآن .
(3)أزمات فكرية : كذلك واجهت الحضارة الإسلامية أزمات فكرية تمثلت في فقدان القدرة في بعض الأوقات خلال عصر الخلافة الراشدة في خلافة عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وخلال العصرين الأموي والعباسي على بذل الجهود الفكرية الكفيلة بتعصير الأصول والقواعد لاحتواء المتغيرات والمستجدات في نواحي الحياة المختلفة ، ولذلك العجز وجهان :
*الوجه الأول : أن ذلك العجز عن بذل الجهود الفكرية الخاصة بتعصير الأصول والقواعد كان نابعاً عن صمت أهل العقد والحل لعوامل كثيرة نابعة عن طبيعة الحياة الاجتماعية ، وعن طبيعة العلاقة بين هذه الشريحة من المجتمع وبين أصحاب السلطة من الحكام وأولياء الأمور .
*الوجه الثاني : أن ذلك العجز كان ناتجاً عن سلوكات أولياء الأمور والحكام الذين لم يطلبوا من أهل العقد والحل بذل الجهود اللازمة لتعصير الأصول والقواعد ، بل ربما أجبروهم على الصمت أو تبرير تصرفاتهم .
وكانت هذه الأزمة من الأزمات التي أفرزت نتائجها وإفرازاتها على الحضارة الإسلامية في أوقات متأخرة ، حيث قادت إلى حالة من الانقطاع بين الحضارة ومرجعياتها التي تمثل بالنسبة لها أهم مصادرها ، وأدت كذلك إلى حدوث حالة من الاغتراب بين المرجعيات الإسلامية والمجتمعات الإسلامية ، جعلت تلك المجتمعات تلجأ إلى مرجعيات دخيلة مستوردة لاستنباط القواعد والأصول التي تضبط الحياة الاجتماعية ، وكذا استخراج نماذج وأدوات الحركة لتفعيل تلك الحياة .
(3)أزمات نظامية : ارتبط بالأزمات الفكرية طائفة من الأزمات النظامية ، تبلورت في عدم المقدرة على ابتكار نماذج وأدوات الحركة الملائمة للأصول والقواعد المستنبطة من المرجعيات الإسلامية ، لغياب تلك الأصول والقواعد من جهة ولجهل أبناء الأمة بكيفية الاهتداء إلى تلك النماذج والأدوات في المرجعيات الإسلامية ، وقد قاد هذا وذاك إلى الاتجاه نحو استجلاب نماذج وأدوات الحركة من الحضارات الأخرى والاعتماد عليها ، وكانت هذه الأزمة من الأزمات التي تركت عواقب وخيمة على التنظيم كأحد أهم مقومات الحضارة الإسلامية .
(4)أزمات الهوية : كذلك واجهت الحضارة الإسلامية أزمة عنيفة فيما يتعلق بتحديد الهوية الإسلامية للحضارة ، وذلك لقيام تنافس بشكل دائم بين الهوية الإسلامية الخالصة للحضارة وبين الهوية العنصرية العرقية بما تحمله من موروثات حضارية وثقافية ، وكان ذلك التنافس يحسم لمصلحة الحضارة الإسلامية مرة ولمصلحة الهويات والخصوصيات العرقية والعنصرية مرات ، وكانت كفاحية الحضارة تثبط أمام تلك الأزمات في كثير من الأحيان .
(5)أزمات خارجية : الأخطار الخارجية والأزمات الناجمة عن تعديات واعتداءات الأمم الأخرى كانت في مقدمة الأزمات التي أثبتت إزاءها كفاحية الحضارة الإسلامية نجاحاً منقطع النظير فقد كانت تلك الأزمات والتعديات أداة تكتيل لقوة المسلمين وراء عقيدتهم وحضارتهم ، ويمكن متابعة تلك الأزمات التي حدثت في شكل تعديات على النحو التالي :
*الخروج الأوربي الأول (الاعتداءات الصليبية) : بالرغم من الاحتكاكات التي كانت تتم بشكل شبه مستمر بين الإمبراطورية الرومانية والدولة الإسلامية ، إلا أن التدخل الأوربي في شئون الدولة الإسلامية تحت حجج واهية يعد أول أزمة تصادم بين دولة الإسلام وأمة خارجية ، وبالرغم من أن الدولة العباسية لم تتفرغ كلياً لاحتواء هذه الأزمة والتصدي للتدخل الأوربي الصليبي ، وألقت بذلك العبء على ولايتي الشام ومصر ، إلا أن مركز الدولة في بغداد كان يتابع تطورات تلك الأزمة ويساعد صلاح الدين الأيوبي مادياً ومعنوياً ، كذلك انبرت ولايات عديدة لمساعدة المسلمين إلى أن تم احتواء تلك الأزمة .
*الاجتياح المغولي : لعل أزمة الاجتياح المغولي هي أقسى الأزمات وأشدها مأساوية في تاريخ الحضارة الإسلامية ، وذلك لأكثر من سبب : فقد أنهت الوجود الرسمي الشكلي النظامي للحضارة الإسلامية وهو الدولة الإسلامية ، حيث انتهت تماماً الخلافة العباسية وتم تدمير عاصمتها بغداد ، وأدت إلى حدوث انقطاع حاد لم يتم وصله حتى الآن بين الحضارة الإسلامية والواقع الإسلامي الذي أعقب الاجتياح المغولي ، وقادت إلى تدمير العديد من مقومات الحضارة الإسلامية ومظاهرها وتعبيراتها مثل العمارة والتشكيل والعلوم وغيرها ، وأثّرت بشكل حاد ومؤلم على هوية الحضارة الإسلامية ، حيث أدت إلى تمزق رهيب أبرز الإقليمية والعنصرية على حساب الهوية الإسلامية .
وبالرغم من كل ما تقدم لم تفتر كفاحية الحضارة الإسلامية وعقيدتها ، ولم تهدأ ، بل أبرزت قدرتها الخارقة على امتصاص الصدمات وتذويب عناصر الاستفزاز وعدم الاستقرار ، وتمكنت من احتواء المغول وهضمهم وامتصاصهم داخل الإسلام بأن أعلنوا إسلامهم ، بل وتم تحويلهم إلى دعاة للإسلام !! وعادت عقيد الإسلام وحضارته قوية قادرة على إثبات قدرتها على امتصاص الأزمات مهما كانت شديدة وتحويلها إلى عناصر قوة ، هكذا كانت عقيدة التوحيد المكافحة ، وهكذا كانت حضارتها مكافحة مثابرة كذلك .
ولقاؤنا القادم مع الانقطاع الذي لحق بالحضارة الإسلامية والذي نصر على أنه لا يعني الفناء والانتهاء .