كلمة عن الصوم في المسيحية

وطن-الصيام‘ أو ’الصوم‘ لغةً هو مصدر الجذر الأجوف الواوي ’صوم‘، ومعناه الإمساك بصورة عامّة، مثل الامتناع عن القيام بعمل ما مثل الأكل، الشرب، الكلام، النوم، الجماع (يوئيل ٢: ١٦) إلخ.، إلا أن المعنى الشائع المألوف لدى الجميع اليوم هو الإمساك عن الطعام. عربية القرآن تفرّق بين هاتين اللفظتين ’صيام‘ و’صوم‘ دلاليا، فالأولى وردت في القرآن الكريم بمعنى الإمساك عن الطعام والشراب في أوقات محدّدة في شهر رمضان، في حين أن اللفظة الثانية معناها قول الحقّ ولا زمن معينا لها في السنة. والصوم، كما يعلم الجميع، رابع أركان الإسلام الخمسة، ورد سبع مرّات في القرآن (سورة البقرة، ١٨٣، ١٨٧، ١٩٦؛ النساء ٩٢؛ المائدة ٨٩، ٩٥؛ المجادلة ٤). ومما يجدر ذكره أن كلمة ’صوم‘ وردت مرة واحدة فقط في القرآن بمعنى عدم الكلام، سورة مريم ٢٦ ’’فكُلي واشربي وقرِّي عينًا فإما تريِنّ من البشر أحدا فقولي إني نذرتُ للرحمن صوْما فلن أكلّم اليومَ إنْسيًّا‘‘. وفي الإسلام أنواع أخرى للصيام مثل: المسنون وهو متفرّع أيضا مثل صوم ستّة من شوال وثلاثة أيام من كل شهر؛ المحرّم وهو في يومي عيد الفطر وعيد الأضحى وفي ثلاثة أيام التشريق؛ المكروه وهو صيام يوم الشكّ ويوم عرفة للحاجّ. ولدى الحنفية ثمانية أنواع من الصيام.

دراسة: الصيام المتقطع يطيل العمر

الكتاب المقدّس والصوم

عُرف الصوم قبل المسيحية، في اليهودية وفيها ستة أيام صوم سنويا وفي الديانات الأخرى إلا أنه يختلف كنهه ومدلوله من دين لآخر، والمشترك فيها كلها هو مسألة الترويض والتهذيب بالنسبة للجسد والروح، بُعد أفقي وآخر عامودي، الإنسان والباري. كما أن الكثير من الفلاسفة والعلماء أمثال سقراط وأفلاطون وأرسطو وأبو قراط قد انتهجوا نهج الصوم كوسيلة للشفاء.
في العهد القديم (Old Testament) صام المؤمن في أيام مختلفة مثل يوم الكفّارة (سفر اللاويين ٢٣: ٢٦-٣٢) وهو اليوم الوحيد الواجب صومه بموجب الشريعة اليهودية (سفر اللاويين ٢٩: ١٦-٣٤، العدد ٧: ٢٩) وفي أوقات الشدّة مثل عند ملاقاة الله ووقت الحرب والمرض والنوح والندم والخطر وذكرى الكوارث (أنظر خروج ٢٨: ٣٤، العدد ١٤:٢٧؛ دانيال ٣: ٩؛ القضاة ٢٦: ٢٠؛ صموئيل الثاني ١٦: ١٢؛ صموئيل الأول ١٣: ٣١؛ سفر الملوك اأول ٢٧:٢١؛ عزرا ٢١:٨؛ أرمياء ١٢: ٥٢، ٥٢: ١٢-١٣؛ يوئيل ١:١٤). وقد صام بعص اليهود يومي الاثنين والخميس (لوقا ٢: ٣٧؛ ١٨: ٩-١٢) فالخميس ذكرى صعود النبي موسى إلى الجبل لتلقي الوحي ويوم الاثنين كان يوم عودته من هناك.
يقول القديس باسيليوس الكبير إن الصوم هو الوصية الأولى في الكتاب المقدس ’’وأما شجرة معرفة الخير والشرّ فلا تأكل منها، فإنك يوم تأكل منها موتًا تموت‘‘ (سفر التكوين ٢: ١٧). وفي العهد الجديد في إنجيل متى ٩: ١٥ نقرأ ’’…ستأتي أيام فيها يُرفع العريس من بينهم، فحينئذٍ يصومون‘‘.
ورد في سفر زكريا ٨: ١٩ صوم الشهر الرابع والخامس والسابع والعاشر وهناك أمثلة أخرى للصوم في العهد القديم مثل: صوم الشعب في عهد إستير (إستير الإصحاح الرابع)؛ صوم أهل نينوى (يونان ٣)؛ صوم الشعب أيام عزرا ونحميا (نحميا ٩: ١، عزرا ٨:٢١)، وصوم في فترة يوئيل (يوئيل ٢: ١٢-١٧).

يذهب البعض إلى أن يسوع المسيح لم يفرض الصوم بل تركه للظروف قائلا ’’متى صمتم‘‘ إلا أن ’متى‘ هنا تعني التحقيق والتأكيد وتنمّ عن أمر واقع وينظر في متى ١٤: ٩، ٢٥:٣١، لوقا ٢٢: ٢٣. وهناك أوقات معينة ذكرت في سفر اللاويين .
الكتاب المقدس لا يأمر المسيحي بالصوم إلا أنه يُصوّره كأمر نافع ومتوقع، ففي أعمال الرسل ورد أن الرُسل والمؤمنين دأبوا على الصيام إبان اتّخاذ قرارات هامّة وعند الخطر ووقت رسامة الخدّام (أنظر لوقا ٢: ٣٧؛ ٥: ٣٣؛ أعمال الرسل ١٣: ٢؛ ١٤: ٢٢، ٢٧: ٢١). عند ذكر لفظة الصوم ومشتقاتها يتبادر إلى الذهن الامتناع عن المأكل والمشرب، إلا أن الهدف الأسمى للصوم هو عدم الالتفات إلى الأمور الأرضية الدنيوية والتركيز الكلّي على الله (كورنثيوس الأولى ٧: ١-٥). عبر طريق الصوم ينبغي أن يسعى الصائم من أجل إقامة علاقة عميقة مع الباري بروح متواضعة ومبتهجة (متى ٦: ١٦-١٨).

ثمة مناسبتان للصوم في العهد الجديد (New Testament)، لطرد الشياطين وللقيام برسالة الدعوى. توجد شياطين لا يقضي عليها إلا الصوم والصلاة، والصوم دليل الإيمان (متى ٢١: ١٧؛ مرقس ٢٩: ٩؛ أعمال الرسل ١: ٣-١٣) وأمامنا مثال يسوع المسيح الذي صام أربعين يوما وأربعين ليلة، الصوم السيّدي، الكبير، ثم جابه الشيطان وقهره وسار على خطاه الرسل وآباء الكنيسة. وقبلهم جميعا صام النبي موسى ثمانين يوما على الأقل. ودعي بالاسم الصوم الكبير لأنه أكثر الأصوام عددا للأيام المتتالية وليس من حيث عدد أيام الصوم إذ أن صوم يومي الأربعاء والجمعة يستمر طوال السنة وعليه فهو يكون الأطول.

أنواع الصيام

ثمة صومان أساسيان، الصوم الكبير وهو قبل عيد القيامة والصوم الصغير وهو قبل عيد الميلاد. أضف إلى ذلك أقسام أخرى من الصيام لدى بعض الطوائف مثل صوم باعوثة نينوى وصوم العذارى في العراق. مدّة الصوم الكبير في الطقوس الشرقية هو ٥٥ يومًا وهي تضم أسبوع الاستعداد والأربعين يوما وليلة التي صامها السيّد يسوع وهو في صحراء يهوذا (متى ٤:٢) وأسبوع الآلام. وللأسابيع السبعة هذه أسماء وموضوعات وقراءات خاصة وهامة في حياة الإنسان المسيحي.

١) أحد الكنوز، تحويل نظر المسيحي عن عبادة المال إلى عبادة الخالق بغية الاستثمار في العالم الآخر؛ الاستعداد لوطن السماء (متى ٦: ١٩-٣٣).
٢) أحد التجربة والنصرة، كيفية انتصار الإنسان على إبليس على غرار انتصار يسوع عليه عبر تخطي العثرات الثلاث: شهوة الجسد وشهوة النظر وشهوة المعيشة (متى ٤: ١-١١).
٣) أحد الابن الضالّ (لوقا ١٥: ١١-٣٢).
٤) أحد السامرية أو أحد النصف (يوحنا ٤: ١-٤٢).
٥) أحد المخلع (يوحنا ٥: ١-١٨).
٦) أحد التناصير (يوحنا ٩).
٧) أحد الشعانين (متى ١: ١٧-٢١).

مفهوم الصوم المسيحي وأهميته

νεστεια نِسْتيا في اليونانية تعني ’الإمساك‘، أي ضبط الجسد والروح ليصبح الإنسان سيّد نفسه والاعتراف بأن الله هو ينبوع الحياة ’’ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله‘‘ (متى ٤: ٤). وللصوم شقّان، جسدي وروحي والثاني أعسر من الأول وأعظم بكثير بالنسبة لمعظم البشر، وهو الابتعاد عن الشرور وارتكابها، كبح جماح الرذائل والمغريات على أنواعها ولا سيما الكبرياء. الصوم في المسيحية أقوى تدريب روحي، فهو والصلاة معا بوسع الروح القدس أن يقلب حياة الإنسان. هنا يغدو الجسد عبدا للروح في عملية التقرّب من العريس، من الله، من أجل تطهير النفس (متى ٩: ١٥).
الصوم الحقيقي تدريب للإنسان ليتحكم بذاته والسيطرة على أهوائه والتبرؤ من كل رياء ليبحث عن الله بإخلاص وتفانٍ . الصوم ليس صوم الفم فقط بل صوم سائر جوارح الجسم عما لا يُرضي الخالق فكما ورد في متى ٢٦: ٤١ ’’الروح مندفع وأما الجسد فضعيف‘‘. من نافلة القول إن الصلاة والصوم صنوان وفق هذا الترتيب وفي حالة قيادة الروح القدس للإنسان إلى الصوم مقرونا بالصلاة فهذا أمر خاص لتضرع المسيحي وتقديم توسلاته للرب. ووقود الصوم هو الصلاة وهما جناحا المؤمن للتحليق روحيا وتجنّب الخطيئة ومنهما يبزغ ركن ثالث وهو الإحسان. وهناك صوم مرفوض عند الباري ألا وهو الصوم المظهري (أنظر متى ٦: ١٦-١٨). كما أن الصوم مرتبط بالتوبة (μετανοια، متانويا باليونانية ومعناها تبديل العقلية وفي العبرية תשובה أي الرجوع) وطلب الرحمة والقوة الروحية من الله لقهر قوى الشرّ. وهدف الصوم يكون من أجل أخينا الإنسان من جهة ومن أجل أبينا في السماوات من الناحية الأخرى. إذن الصوم لا يعني في مدلوله العميق الامتناع عن الطعام والشراب بل هو بمثابة درس روحي لتهذيب الجسم والروح بغية بناء علاقة وفق إرادة الله. والصوم الابتعاد عن كافة أنواع الشر حتى في التفكير كما جاء في زكريا ١: ٧-١٤. إذن الصوم وسيلة وليس هدفا، إنه يقودنا إلى الله ، خبز الحياة (يوحنا ٥: ٤٨). وعند الصوم لا مندوحة من المصالحة الحقيقية مع الآخرين، الشعور بالجوع وبالعطش يجب أن يتمخّض عنه الشعور مع الجائع الفقير، وما يصوم منه الإنسان ينبغي أن يكون للمحتاج (أنظر أشعياء ٦: ٥٨). المسيح لم يحدّد أوقاتا للصوم وتفاصيل أخرى، إلا أنه رسم لنا الخطوط الأساسية ناهيًا عن الصوم الظاهري وترك الجزئيات في هذا الصدد للكنيسة لتقرّر ما تراه مناسبا على ضوء الظروف الراهنة.
وهناك صيام واجب وآخر مستحبّ، والأول ورد في وصية الكنيسة الرابعة ’’انقطع عن أكل اللحم وصُمِ الصوم في الأيام التي تقرّها الكنيسة‘‘. والصوم هنا يعني تناول وجبة واحدة في اليوم والامتناع عن ’الزفر‘ أي اللحم ومشتقاته يومي أربعاء الرماد (أيوب ٤٢: ٦) والجمعة العظيمة. وهذا الصوم يكون كل يوم جمعة في خلال الصوم الأربعيني. وأما الصيام المستحبّ فهو خارج عن هذا الوقت بناء على ظروف كل شخص، هناك من يصوم يومي الأربعاء والجمعة على امتداد السنة بأسرها، لأنه في يوم الأربعاء سلّم يهوذا الأسخريوطي المسيحَ لرؤساء الكهنة مقابل ثلاثين من الفضّة، أما صوم يوم الجمعة فهو تذكار صلب يسوع المسيح. ويذكر أن الصوم في سبت النور فقط واجب وليس في سبوت أخرى لصلة السبت بأحد القيامة. وفي أيام القطاعة، الامتناع عن تناول اللحم ومرقه والبيض والألبان والأجبان والزبدة إلخ. أما السمك فمسموح أكله في أيام معينة وقل الأمر ذاته بالنسبة للزيت والخمر. وأيام القطاعة تضم الصوم الأربعيني كاملا والأسبوع العظيم المقدّس باستثناء عيد البشارة وأحد الشعانين، إذ فيهما تناول السمك مسموح. في الكنيستين الأرثوذكسية والكاثوليكية توجد مواعيد معروفة للصوم بينما الكنيسة البروتستنتية لا تفرض تقريبا شيئا بخصوص الصوم. ففي الكنيسة الكاثوليكية قد يمتنع المؤمن عن تناول اللحم ومشتقاته كل يوم جمعة حزنا على صلب يسوع يوم جمعة وقد يعبّر عن شعوره هذا بطريقة أخرى. أما يوم الجمعة العظيمة/الحزينة فمن المألوف أن يتناول الكاثوليكي الخبز والماء فقط علامة للحداد الشديد. الصوم المسيحي بخلاف اليهودي والإسلامي لا يشمل الامتناع عن الشرب.
كي يكون الصوم حقيقيا ناجحا لا بد من توفر بعض الظروف وهي: الهدوء، الاختلاء، الصلاة، نقاوة قلب وتوبة، الإكثار من قراءة الإنجيل، السجود والخضوع للخالق، الإيمان وهو القوّة الغالبة (أنظر رسالة بولس إلى العبرانيين ١١)، عشرة الملائكة والقدّيسين.

الصوم وحده لا يوصلنا إلى السماء، إذ لا بد من محبة والمحبة أم كل فضيلة، ويمكن تشبيه الصوم بالطائر، ولكي يطير لا بد من جناحين وهما الصلاة والصدقة. وقال القديس يوحنا فم الذهب/ذهبي الفم ’’إشحذ منجلك الذي أتلفته الشراهة، إشحذه بالصوم‘‘.

قد يهمك أيضاً

تعليقات

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

تابعنا

الأحدث