وطن- لما فصلت العير القادمة من مصر ووصلت فلسطين الحبيبة، وقيل فور انطلاقها من مصر برأي بعض المفسرين قال سيدنا يعقوب لمن حوله:
ـ “وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ” 94 ـ سورة يوسف..
النفوس المؤمنة الطائعة، المتوكلة على ربها في شدة البأس.. يُصبّرها الله ويعينها، و تجد ريح من تفتقد وتحب، وياله من تعبير قرآني رائع رائق، فإن سيدنا يعقوب عليه السلام من فرط محبته لسيدنا يوسف، وجد ريحه على بعد عشرات وقيل آلاف الكيلومترات، إنها النفوس الصافية ترى وتشم بل “تجد” من تفتقده، وتميز حتى “ريحه” على البعد..
بنو إسرائيل واليهود بين عقاب الله وكراهية الناس
مع فارق التشبيه..هيّج أوبريت “مصر قريبة” نفوساً ما كادن “تقر” من فقدان مصر، وبكت عيون لوقاحته، ولغلو قيمة مصر التي “يسفهونها” عليها، بل إنني لأعرف أناساً وجفت قلوبهم لمرآى المطار، مطار القاهرة، ومجرد رؤية مشاهد الواصلين إليه، ومقدمات مشاهد كوبري “قصر النيل” الشهير .. فغالبت الدمع .. فلما لم تستطع إكمال المشاهدة ..دعت الله ان يردها إلى وطنها بل أن يرد وطنها عليها.. دعته تعالى بدمع الشتاء الهاطل .. السخين ..فيما هم يدعون ل”الدعارة” في قلب مواسم الامتحانات البعيدة عن “السياحة”..
(1)
لم يكن الأمر حينها يخص ابن نبي الله يعقوب، عليه السلام، الذي فقده منذ عقد من الزمان أو عقدين على الاقل “يوسف”، عليه السلام، فقط، بل كان يخص فقداناً آخر.. أكثر مرارة، بإضافته إلى الفقدان الأول، فهو ل”بنيامين” الوحيد الصغير الشقيق ل “يوسف” من أم حرة “راحيل”، إذ قيل بقوة إن أحد عشر كوكباً، في حلم الأخير، هم أبناء سيدنا يعقوب من أمهات لسن أحراراً فيما يوسف وبنيامين وحدهما من أم حرة..وإن قيل للأمانة من نفس المصدر، الشيخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله في خواطره حول القرآن الكريم، إن أبناء يعقوب الأحد عشر كانوا أنبياء جرى عليهم ما يجري به القلم من الخطأ..
الفقدان الآن على أشده..
ذهب يوسف، عليه السلام، مع إخوته في الصغر فلم يعد، وهاهو “بنيامين” وكان “سيدنا يعقوب” يتسلى به عن فقد “يوسف”، عليهما السلام، ويشم في احتضانه أنفاس ابنه المفقود، وهو يرى فيهما “عصفورين طاهرين” إن لم يحمهما بجناحه ضاعا وسط خضم قسوة الحياة، وهاهو بنيامين قد ذهب “هو الآخر” إلى مصر فلم يعد، مع الاختلاف هذه المرة، فقد أخذ على إخوته، الذين “أضاعوا” يوسف من قبل ” قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آَتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ” 66 ـ سورة يوسف..
وبعد ان “آتوه موثقهم” أشهد الله تعالى عليه وعليهم، وكأنه يقول بلسان الحال لا استطيع الشق عما في صدوركم نحو “بنيامين”، ولكن الله تعالى يعلم ويعرف، وكأنه يريد القول: اللهم اهد قلوبهم على أخيهم .. فلا يفعلون به مثلما فعلوا ب”يوسف” عليه السلام..
ورغم هذا كله.. ومع عظمه، إذ ربما “فقدوا” يوسف لإنهم “صغار” لا يقدرون الحياة حق تقديرها، ولا يستطيعون التصرف “معها”.. ولا “فيها”..إلا إنهم فقدوا “بنيامين” لأسباب جديدة لم يشهدها يعقوب عليه السلام بعينيه اللتين صارتا كليلتين..ولا حل لديه لهذه المأساة لديه إلا أن “يحفز حب الخير في نفوس بقية أبنائه”:
ـ “يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَاْيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا ياْيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ” 87 ـ سورة يوسف ..
ورغم ما هم فيه من “وجد” على أخيهم الأخير وفقده، وتذكير أبيهم بما “فعلوه” بيوسف من قبل، وكونهم “يعانون” من قولهم الصدق “هذه المرة” فلا يكاد كلامهم يجاوز اُذن أبيهم .. بعد كل هذه المواقف قال يعقوب عليه السلام “إني لأشم ريح يوسف” يوسف لا بنيامين!
(2)
مَنْ لا يعرف الله تعالى لا يعرف لماذا يصمد الشرفاء في مصر اليوم، لا الإخوان والتيار الإسلامي وحدهم في داخل الوطن المغدور به، .. بل كثير من شرفاء المصريين خارجه أيضاً ..
أغسطس 2013م:
لا أنسى تلك السيدة المحجبة التي يشي وجهها بالعقل لما ضاقت بدفاعي عن “الحق” لا الإخوان أو الرئيس مرسي للأمانة فقالت لي:
ـ فقط اريد أن أعرف من أين أتت لكم هذه الثقة الشديدة في إنكم منتصرون .. وما دلالتها وعلاماتها لديكم .. وأي عقل قادكم إليها؟
هتف الضمير بداخلي:
ـ الله مصدرها ومحاولة التمسك بإهابه رغم أخطائنا وتقصيرنا!
لكن وجه السيدة المتجاوزة للخمسين عاماً .. ومحاولتها التعقل منعاني من أن “أفش غلها” أو أريح نفسها برد بخاصة مع “سخافات الآخرين” ففضلتْ تغيير موقعي من السيارة “الميكروباص”.. وتركتها لتفكيرها!
كم من ملايين “ختم الله” على عقولهم وقلوبهم في مصر صاروا وراء قائد الإنقلاب عبد الفتاح السيسي؟ّ!
كم من عائد منهم لمعرفة الحق لكنه يكتم “الصدق” داخل نفسه ليموت؟!.. إن مات على الضلال ..
الرئيس محمد مرسي وحزبه وإخوانه أقرب إلى الحق من السيسي وأذنابه، وإن جرى القلم بالخطأ على الأولين ووقعوا فيه كدأب البشر!
زمن احتلال الهكسوس لمصر:
في غياهب السجون يقبع “سيدنا يوسف” في مصر إذ إن تاريخ الضلال وتحدي الحق فيها موغل في القدم، بقدم أقدم سجن مذكور في القرآن الكريم.. بل لعل سجناً آخر لم يرد به نص واضح تاريخياً، ولم يذكر في القرآن الكريم سجن آخر ..
تم سجنه لإنه رفض دعوة “طبقة الكريمة” من “تورتة المجتمع” فمصر منذ الأزل أسياد وحرافيش.. وامرأة العزيز من الأسياد دعته ل”نفسها”، وجاءت “صويحباتها” على الرائحة: “فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيم” 31 / يوسف ..
والكريم لديهن مرتكب للفاحشة خائن للعهد والأمانة، فقد تربى يوسف في “بيت العزيز”، رئيس وزراء مصر الذي تدعو امرأته يوسف لسيىء الفعال، وليست وحدها إذ تؤازرها الفئة المشابهة لها من نساء قادة الجيوش ودولاب الدولة المستسلمة لاحتلال الهكسوس، أولئك الآكلين الشاربين على كل الموائد، أولا يذكركم ذلك بأشياء؟
الدولة العميقة، العانتيل بأحجامهم لا في الغربية فقط بل الكنيسة وحزب النور .. وما خفي كان أعظم..
قال يوسف عليه السلام على الدوام:
“قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ” 33/يوسف.
وحكم القاضي الظالم، الشامخ، المطيع للأوامر الساقطة عليه من أعلى .. حكم على يوسف في قضية “هزلية مدعاة” ودخل السجن بضع سنين من ثلاثة إلى تسعة ..
ألم يكن أجدى أن يذهب إلى النسوة فيسالمهن لعلهن يرضين بالتجاوز عن فعل الفحشاء .. والصفح عنه؟
يرى البعض إن في تفاوض الإخوان نجاة لهم، وللحقيقة تراود حتى صاحب الكلمات رغبة في الأمر أحياناً في إنهاء الأمر، لكن ترسب الأمور قال بالواقع العملي إنهم يريدون الثورة لا الإخوان، وما القتل والتنكيل والإكثار منهما، حتى لم نعد نعرف أسماء الشهداء، والله تعالى أعرف بهم وأرحم، مع الرفق “المقيت المكروه” بالحيوان كما كلب الهرم وما شابه في ظل هذه الكوارث، كل هذا وملايين الشواهد الصغرى والكبرى تدل على إنهم يريدون الثورة لا الإخوان ..
(3)
هل “مسالمة” سيدنا يوسف كان مخرجه من السجن؟
حاشا له، عليه السلام، سؤال لا يحمل إلا “اللؤم والسفسطة بل قلة الدين والأخلاق”!
“مسالمة” الإخوان اليوم، مع فارق التشبيه، بأي حال من الاحوال لن يوقف “المهلكة” الدائرة في مصر وإن توهم البعض .. لولا أن يعاود هذا الشعب في كتلته الحرجة “شىء من العقل”، لولا أن يصطلح عقلاء الجيش مع الله تعالى فيطهروا أنفسهم بأنفسهم، لولا أن يقف حكام الخليج مع أنفسهم وقفة صدق تلزمهم العقل، أو تطيح “يد القدر” بالبقية الباقية القاسية قلوبهم منهم، او تجبرهم التغيرات العالمية بما فيهم “الولايات المتحدة الأمريكية” .. وترغم تصاريف الأقدار.. بما ترسله من لطف خفي .. وعفواً من مصائب الأخيرة وأوربا على التسليم ب”ركل” القتلة الفجرة الظلمة الذين لا يعرفون الله إلى مزبلة التاريخ ..
(4)
هل كان يحتاج سيدنا يوسف إلى قوة عسكرية تخرجه من السجن أو إلى “حمل للسلاح” ليخرج من السجن؟!
ربما يصلح الله الأمور بما لا يخطر لأحد على بال..
رؤيا تتسلل بالليل .. في جنح الظلام إلى جناح ملك الهكسوس الذي يحكم مصر، ولكنه عادل، وهي تحتاج إلى تفسير، وهو بنفسه يسأل ويبحث عن المفسر، ويوسف يرفض الخروج من السجن في البداية حتى تثبت براءته من اجراءات الدولة “القاتلة المجرمة”، فقد قتلت فتى الملك الذي رأى إنه يحمل فوق رأسه خبزاً .. بمجرد “هوى القاضي الظالم” وكون الفتى بلا عزوة أو منعة من قبيلة أو عائلة أو ما شابه.. وقيل إن جريمته التحدث بما أرادته زوج العزيز فعله.. مجرد الحديث.. مصر موعودة بالظلمة منذ الأزل .. بالظلم ..
ربما البعض يريد للإخوان “تسوية الأمور” من باب الشفقة بهم، ولله في خلقه شئون .. وهو وحده أرحم الراحمين .. ولو أراد فإنما أمره بين الكاف والنون..
(5)
يخطىء من يظن إنها كانت حرباً على يوسف عليه السلام اودت به إلى السجن ..
يخطىء من يظن إنها حرباً على الإخوان اودت بهم إلى القتل والطرد والسجون..
كان المجتمع المصري يتحول عن الظلم والفجور والخطايا إلى رحابة دين الله تعالى، والإسلام قديم قدم الأزل جاء به جميع الأنبياء والرسل، ولعل وجود يوسف، عليه السلام، خارج السجن كان يمثل إهداراً لجهده، وفي الأخير تم صقله..مع المنطقة المحيطة كلها ..
وما يزال المجتمع المصري الآن يتم “ثقله” و”صقله” ليعرف قيمة الإخوان والتيار الإسلامي الصادق الحقيقي لا حزب النور الزائف المزور في نسبته إلى الإسلام.. فإنها حرب على الإسلام واضحة وضوح الشمس في كبد السماء .. وإلا فراجعوا “مصر قريبة” أوبريت الدعوة إلى “الدعارة”، و”تفسخ المجتمع عبر “العلاقات الجنسية” مع زواره..هذه هي مصر العسكر في أوضح صورها “تصادر آذان الفجر وتعلي صوت امتهان جسد المرأة وكرامة ونقاء صورتها وسريرتها”،وفي نفس وقت تصويره كان الرجال يتم تقطيعهم في أقسام الشرطة، وتنتهك حرمات البيوت، والأعراض في المدرعات ..
“حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ” الآية 110/يوسف..
أفلا تحتاج منا “سورة يوسف” إلى مزيد من الإمعان في محاولة القراءة مع بقية آي الذكر الحكيم؟!