الرئيسية » أرشيف - فضاء واسع » خيط رفيع بين مجازر بانياس وأخواتها والهدف الخفي لغارات إسرائيل

خيط رفيع بين مجازر بانياس وأخواتها والهدف الخفي لغارات إسرائيل

 

كلما ظهرت مستجدات غطّت على موضوع التقسيم كخيار بديل لانهيار نظام بشار ، طرأت مستجدات أخرى أعادت طرحه من جديد . وهذا ما حملته بشكل صارخ مذابح التطهير العرقي في البيضا وبانياس والقصير وغيرها ، التي ستبقى تذكّرنا على الدوام بمجزرة دير ياسين التي ارتكبها الصهاينة في فلسطين ، ومجازر صبرا وشاتيلا وتل الزعتر ومخيم ضبيّه التي ارتُكبت في لبنان ، مع فارق كبير أن هذه الأخيرة قام بها عتاة الأعداء ، أما الذي يُنفّذ الآن في المدن السورية من مذابح طائفية جماعية فهو من فِعل النظام الذي يُفترض أنه المسؤول عن حماية شعبه لا إبادته بوحشية أشد من العدو التاريخي .
بعيدا عن أرقام الضحايا التي تتضارب في دقتها بين مصدر وآخر ، فإن كل التقارير المنصفة تؤكد على الإدانة المطلقة لجرائم النظام ومن يسانده على الأرض ، وتعكس حجم الجريمة وأهدافها الأبعد من الحدود المرئية ، كما تكشف لكل ذي عقل سبب وقوعها للمرة الأولى في المناطق التي تتواجد فيها نسبة عالية من طائفة النظام ، وإن كانت لا تتعدى الاربعين في المئة ، وهي التي يجري الحديث عنها منذ مدة كملاذ آمن لهم في حال تحقق سقوط النظام ، أو من قبيل الترويج لحل سياسي يتبنى فكرة التقسيم بدلا من استمرار الحرب الأهلية .
هذا هو الواقع المرّ كما يراه الكثيرون ويرون مقدماته بوضوح ، وقد استقرأها في الأيام الأخيرة من العام المنصرم مدير مركز دايان الإسرائيلي للدراسات الشرق أوسطية عوزي رابي ضمن تقرير بثته شبكة سي إن إن ، تحدث فيه عن توقعاته المرتقبة للعام الجديد 2013 ، لافتا الإنتباه إلى ظاهرة تدفق أفواج كبيرة من العلويين إلى هذه المناطق في الآونة الأخيرة ، ولاسيما طرطوس واللاذقية ، الأمر الذي يرجح في نظره ــ استنادا إلى معلوماته المعروفة المصدر ــ تفكك سورية طائفيا إلى ثلاثة كيانات سنية وعلوية وكردية .
كثافة الإجرام الذي حصد في اليومين الأولين للمجزرة أكثر من 800 ضحية في مدينة البيضا لوحدها ، أغلبهم من الأطفال والنساء والمسنين ، حسب إعلان المجلس العسكري للثورة في بانياس ، هزت ضمائر عدد من الدعاة الكويتيين في ظل صمت معظم أنظمتنا ، ودفعتهم الى القيام بحملة تبرعات عاجلة لشراء راجمة صواريخ مع مستلزماتها من العتاد بقيمة 600 ألف دولار ، وقد تم جمع المبلغ وشراء الراجمة في غضون يومين حسبما أعلن الشيخ حجاج العجمي ذلك في حسابه على الموقع الألكتروني ، وقام بنشر صورتها .
أما ما شهدته البلدات والقرى الأخرى فلا يمكن وصفه بدقة ولا حصر مداه الإجرامي . يكفينا ما كشفه ر المصدر السوري لحقوق الإنسان حول هروب مئات العائلات من الأحياء السنية في مدينة بانياس خوفا من أن يلقوا مصير ضحايا المجازر التي وقعت ، والتي حُدّدت مبدئيا بإعدام 150 مواطنا في يوم الخميس ، و28 يوم الجمعه منهم 20 من عائلة واحدة . و84 يوم السبت . ولم تقف الأمور عند حدود البيضا وبانياس ، بل تقول المعلومات ـ حتى كتابة هذه السطور ـ أن جيش النظام وشبيحته يحاصران قرية المرقب قرب بانياس تمهيدا لاجتياحها ، وكأن هذه القرية الصغيرة التي شهدت نزوحا جماعيا عاصمة لألدّ أعداء أمتنا !
وحتى لا يُنكر بشار هذه الحقائق كعادته ، قام المرصد السوري لحقوق الإنسان بتوثيقها ، ليقطع عليه مجال المبالغة في التصنع بالتأثر من جراء سماعها ، أو الإستغباء بالسؤال عن تفاصيلها ، كما فعل أكثر من مرة ، كان آخرها مع مراسلة الصندي تايمز عندما أبلغته عن مقابلتها لطفل في الأردن فقد ذراعه وساقه في هجوم صاروخي ، فعاجلها بالسؤال : هل هو سوري ؟ ولما أجابته بنعم سألها ثانية : .. ما اسمه ؟ ، ثم سارع إلى "شرح" سؤاله لها بالقول حرفيا : "طبعا لكل ضحية في هذه الأزمة إسم"!
ولما كان لكل ضحية اسم ، فقد جاء توثيق ضحايا عملية"تحرير" حي رأس النبع ببانياس من قبل قوات النظام وشبيحته بالصورة والإسم والشريط المسجل أيضا ، وقد بلغ عددهم 62 شهيدا من بينهم 14 طفلا .
هذا جزء من بعض ما يجري منذ أسبوع في المناطق التي يعتبرها النظام ملاذه الأخير ويعمل على "ترتيب" أوضاعها استعدادا لكل الإحتمالات ، لكن اللافت أن هذا الترتيب لم يقتصر عليها وحدها ، فقد سجلت الساعات الأخيرة المتزامنة مع مجازر البيضا وبانياس عودة الهجمات العسكرية المحمومة للسيطرة على مدينة حمص ذات الأغلبية السنية بمشاركة قوات كبيـرة من حزب الله ، والدفع تحـت القصف العشوائي باتجاه تفريغها من سكانها ووضعها على خريطة "الدولة العلوية"المرتبطة بالمناطق التي يسيطر عليها هذا الحزب في لبنان ، وسط معلومات تؤكد أن غرفة عمليات إيرانية هي التي تدير الآن معارك حمص وضواحيها كمدينة القصير .
أما الأكثر لفتا للإنتباه ومدعاة للتساؤل وسط حمى المذابح التي ينفذها النظام واستنكار العالم لها والمطالبة بتدخل أممي ، قيام إسرائيل بتنفيذ عمليتين متتابعتين استهدفت الأولى شاحنة تنقل سلاحا لحزب الله ، والثانية مركزا للبحوث العلمية في منطقة جمرايا ، لم يستطع النظام التعتيم عليها بعد أن هز دويها مدينة دمشق وغطت ألسنة اللهب سماءها ، فكرر معزوفته المعروفة " نحتفظ بالرد في الزمان والمكان المناسبين "، على الرغم من إعلان صحيفة يديعوت أحرونوت أن إسرائيل قد أبلغت السلطات السورية بأنها ليست هي المستهدفة من عمليتي الضرب.
ومع ذلك ، فإن التفسير الأكثر سطحية للهدف المتوخى من وراء هاتين العمليتين يبقى محصورا في حيّز العزف على بديهيات لا تنطبق على حالة نظام يمارس هذا الكم من الإجرام الفئوي الطائفي تحت شعارات الممانعة والصمود ، بل ينطلق من محاولة تشويه صورة الثورة من خلال القول أنها تقاتل النظام الذي تقاتله إسرائيل ، وكأنها وإياه في خندق واحد .مع أن الأدق والأكثر مدعاة للتأمل فيه أن هاتين العمليتين وتوقيتهما يصبان في خانة خدمة النظام ، إن لجهة إثارة تعاطف من لا يرى أعمق من الظاهر ولا يريد قراءة المخفي في مسيرة الأحداث وتزامنها ، أو لجهة حرف أنظار الدنيا عن المذابح التي يمارسها النظام وإلهائه بأخبار الضربة الإسرائيلية وذيولها ، وهو ما حصل بالفعل .
ولهذا قامت إيران إمعانا منها في خلط الأوراق باستغلال هاتين العمليتين والاعلان بلسان علي أكبر ولايتي ، مستشار خامنئي للشؤون الدولية أنه "لولا إيران لما صمدت سورية "، تماما على نسق مقولة أبطحي المشهورة"لولا إيران لما سقطت بغداد". كما ذهبت وكالة سانا الرسمية للأنباء بعيدا في هذا المنحى ، فاعتبرت العملية الإسرائيلية ــ وهي بالمناسبة ليست الأولى التي تستهدف شاحنة سلاح ولا مركز جمرايا نفسه ــ "محاولة واضحة للتخفيف من الضغط على المجموعات الإرهابية بعد الضربات التي تلقتها والإنجازات العديدة على صعيد إعادة الأمن والإستقرار إلى ربوع سورية "!!
إذا كانت العبارة الأخيرة حول ا"لأمن والإستقرار"ليست غريبة على أسلوب إكذب ثم إكذب الذي تمارسه أجهزة الإعلام الرسمية ، وإذا كل ما سبق من أكاذيب النظام ليس غريبا على من استمرأ ممارسة شتى صنوف الإجرام والتشبيح ، إلا أن الغريب وسط دوامة الإجرام المستمرة فصولا أمام أعين العالم ، عدم تزحزح الولايات المتحدة كقوة أكبر عن موقف التريث والتفرج ، والإكتفاء بقول الناطقة بلسان وزارة خارجيتها تعليقا على المذابح الجماعية الأخيرة ، أن الولايات المتحدة قد رُوّعت من مجزرة البيضا ولابد من محاسبة المسؤولين عنها . أما الرئيس الأميركي نفسه فقد اكتفى هو الآخر بكلام أهدأ قائلا ببرودة قلب وأعصاب " لا أرى في إرسال جنودنا إلى الأراضي السورية أمرا جيدا بالنسبة للولايات المتحدة ولا حتى بالنسبة إلى سورية"!
وانطلاقا من هذا الموقف "الثابت" يمكن الوقوف على سر مراوحة الأمم المتحدة حتى اليوم عند حدود اجترار الكلام الذي لا يحسم أمرا ولا يؤثر، ليس تجاه الوضع السوري فحسب ، بل تجاه كل القضايا التي لا تريد الولايات المتحدة الحسم فيها . وإلا كيف يمكننا أن نفسّر استمرارها في دوامة التساؤل عما إذا كان الوسيط الدولي الأخضر الإبراهيمي قد استقال من مهمته أم لا ؟ والأنكى من ذلك تصريح أمينها العام بان كي مون بعد بحر الدم السوري المسفوك طوال أكثر من عامين أنه قد "أجرى محادثات غير رسمية مع سفراء الدول الخمس الدائمة العضوية تركزت على بحث التحركات الممكنة لإنهاء الأزمة" ….السورية طبعا !
هذا هو عالم اليوم بأكبر كبيريه : الولايات المتحدة والأمم المتحدة .
… وورغم ذلك ، ما زالوا يصرون على التغنّي بالحرية وديمقراطية " الأنكل سام " والشرعية الدولية ..إلى آخر الإسطوانة المشروخة في سائر أرجاء الأرض !
 
د.عمار البرادعي *
*  كاتب سوري يقيم في باريس

قد يعجبك أيضاً

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.