الرئيسية » تحرر الكلام » عودة جواسيس الهومو سوفياتيكوس

عودة جواسيس الهومو سوفياتيكوس

يبدو أن لعنة التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2016 لا زالت تلاحق دونالد ترامب في كل ساعة يقضيها على رأس المكتب البيضاوي، ويبدو كذلك أن المواطنين الأمريكيين بدأ يتكشف لهم أخيرا أن دونالد ترامب؛ الرئيس الذي انتخبوه ومنحوه ثقتهم؛ قد تحول من رجل مليء بالصخب والشوفينية، والتعبئة الشعبوية، واحتقار سكان هذا العالم من غير بني جنسه، والتطلعات “الثورية” المقوضة لكل ما بناه سلفه أوباما-إلى عميل رخيص للمخابرات الروسية والرئيس فلاديمير بوتين، وأن الذي حسبوه خيارا ظهر مع الأيام فقوسا، وما تصوروه عطرا انقلب خلا، فكلما مر يوم نظروا في المرآة فرأوا أنفسهم كعراة يلبسون فروة جاسوس يحمل بين عطفيه رائحة دبّ سايبيري عريق.

إن ترامب يستطيع أن يهاجم كل زعماء العالم دون استثناء، بمقدوره أن يلوكهم في فمه مثل لقمة طرية من “غزل البنات”، لا يعبؤ أن يهدد بعضهم بضربة نووية أو يحتقر بعضهم الآخر بشزرة من عينيه، إلا واحدا؛ هو بوتين، وهذا الأخير وإن كان قد أسدى إليه “معروفا” باختراق أجهزته السيبيرانية لبريد غريمته هيلاري كلينتون ونشر “غسيلها” السياسي على الفضاء التواصلي، فإنه في الحقيقة أهان الديموقراطية الأمريكية بما يساوي أسر ألف جندي من البحرية الأمريكية أو احتلال مدينة بأسرها في البر الأمريكي، مثلما أهانت السعودية السيادة اللبنانية باعتقال سعد الحريري في تصرف لا يصدر إلا عن بدو في أحط عصور البداوة والجهل بالأعراف الديبلوماسية، فالدول تصادر أموالا، حسابات بنكية، عقارات…لكن أن تصادر رئيس حكومة بلحمه وشحمه فهذا من المهازل القبيحة، حتى قال بعض الخبثاء في فرنسا معلقا على زيارة الرئيس ماكرون إلى السعودية، إن ستة رؤوس نووية موجهة إلى الرياض إذا ما اعتُقل الرئيس الفرنسي هناك.

هاهو ترامب يبدو صغيرا للغاية لا يظهر منه إلا عظمة لسانه السليط؛ لأنه لولا أيادي بوتين عليه لما حلم أن يجلس اليوم على كرسيه في البيت الأبيض، فهي خدمة ولكن بطعم السبة، وإعانة بنكهة الإهانة، وترامب يعلم أن بوتين يعلم أنه يشعر بمثل شعور الطفل المغلوب على أمره الذي لا يجرؤ أن يشتم رجلا جلفا صفعه على قفاه بعد أن قدم له قطعة من “البنبون الفاخر”، لذلك فكل عنترياته وخصوبته في الكلامنولوجيا والشتمنولوجيا (علم الشتائم) تتبخر عندما يلتقي الزعيمان في أي مناسبة، أو يأتي ذكر التدخل الروسي كلما عقد ترامب ندوة صحفية في أسئلة لئيمة للفيف من الصحافيين -الذين يكرههم الرئيس كره الفأر الآثم للمصيدة الخبيثة.

لقد كان من الأسباب التي أدت إلى سقوط الولايات المتحدة في فخ الجواسيس الروسي وتمكن “الهاكرز” الروس من قرصنة واختطاف القرار الانتخابي الأمريكي؛ عندما اعتقد الأمريكيون أنهم انتهوا من كل ما له صلة بحقبة الحرب الباردة منذ اللحظة التي أعلن فيها ميخائيل غورباتشوف نهاية ال”هومو سوفياتيكوس” أو الإنسان السوفيتي، وبداية مشروع البيروسترويكا و عهد ما بعد الاتحاد السوفيتي المضمحل، لقد كان انتصارا تاريخيا، لكن ليس نهاية العالم بل انتصار جزئي، انتصرت الديبلوماسية وانتصر النفوذ وانتصرت الرأسمالية، لكن الجهاز الاستخباري الروسي  ظل بكامل فاعليته متربصا لعدوه، لقد وقع الأمريكيون ضحية غرورهم وما أسرعهم إلى الغرور؛ عندما شاهدوا القوى الكبرى بعد الحرب العالمية الثانية تتساقط أمامهم تساقط أوراق شجر الخريف اليابسة، وظنوا أن المفعول النفسي للإرهاب النووي في اليابان قد ضمن لهم أكتاف الأمم إلى الأبد، وأن استمرار الهيمنة بات قدرا إلاهيا، لقد كانوا واهمين.

  فالروس لم يتخلّوا أبدا عن حدائقهم الخلفية التي شهدت أمجاد جهاز الكي جي بي، وظلت الآلة الاستخباراتية تؤدي دورها بكفاءة متناهية مثلها مثل الصناعة العسكرية الروسية حتى في أشد الأزمات السياسية والاقتصادية التي مرت بها موسكو في عهد غورباتشوف وبوريس يلتسن وصولا إلى “تْزار” موسكو الجديد فلاديمير بوتين، ولعل هذا ما جعل الاتحاد الروسي يستعيد ألقه ويعود إلى الساحة الدولية بقوة حاملا ثأره الدفين، وهاهو اليوم ينافس مجددا الولايات المتحدة على النفوذ في آسيا وأوكرانيا والشرق الأوسط منذ أن طرد الرئيس السادات الخبراء الروس عام 1972، بل وامتدت يده لتزعزع وحدة دول الاتحاد الأوروبي.

إن ملف التجسس الروسي- وتورط ترامب وأعضاء في حملته الانتخابية إلى أذقانهم في التواطؤ مع الاستخبارات الروسية -الذي يشتغل عليه المحقق الخاص روبرت مولر؛ بدأ يشارف على مراحله الحرجة والأكثر إثارة بالنسبة للرئيس ترامب، بعد أن طالت التحقيقات أشخاصا داخل الدائرة الضيقة للرئيس، آخرهم مستشاره ميلر، وغدت قضية التجسس الروسي، القضية الكبرى للرأي العام الأمريكي، وقد تؤدي فعلا إلى عزل الكونغرس لدونالد ترامب، فليست هذه المرة الأولى التي يطالب فيها الكونغرس بعزل رئيس في عز سلطته في الولايات المتحدة وفِي قضايا أهون بكثير مما يُتهم به ترامب اليوم، وأشهرهم نيكسون وفضيحة تجسسه على اجتماعات الحزب الديموقراطي في ما عرف “بفضيحة ووترجيت”، فكيف بتجسس الروس الغريم التقليدي للأمريكيين على المرشحة الديموقراطية هيلاري كلينتون في عقر دارهم وتعريتها “إلكترونيا” أمام قومها، فهل لترامب شجاعة نيكسون فيستقيل هو الآخر قبل عزله ومحاكمته؟.

كما أن استمرار الرئيس الأمريكي في الإنكار للحفاظ على منصبه، يؤدي به إلى محاولة طمس أدوات الجريمة والتستر على العملاء الروس الذين يشتغلون داخل التراب الأمريكي، واعتراض سبيل التحقيق كما حدث عندما طلب ترامب من المحقق الفدرالي إغلاق التحقيق الخاص بالتخابر مع روسيا والتدخل الروسي في الانتخابات.

ويقر نافيد جمالي- العميل السابق لدى مكتب التحقيقات الفدرالي والذي يشغل حاليا منصبا استخباراتيا في البحرية الأمريكية، وصاحب كتاب “كيف تكشف جاسوسا روسيا”- في مقال نشرته نيوزويك الشهر الماضي؛ أن التهديد الروسي للأمن القومي الأمريكي هو تهديد فعّال أفضى إلى عمليات ناجحة ضد الولايات المتحدة، وبدأ قبل وقت طويل من وصول ترامب إلى سدة الحكم، فالروس حسب جمالي لم يخترقوا الدائرة الضيقة للرئيس فحسب، بل استغلوا وسائل التواصل الاجتماعي لترويج الشائعات والأخبار الكاذبة التي استهدفت أصوات الناخبين.

ورغم ذلك فإن الإدارة الأمريكية الحالية، قد أظهرت قدرا غير يسير من اللامبالاة، ولم تقم بأي إجراء لتحصين أمنها القومي بدفاعات تصمد أمام مثل هذه العمليات، لم يتم تقديم أي طلب لزيادة ميزانية المجتمع المخابراتي لمكافحة التجسس، كما أن بعض الأمريكيين يعتقدون أن هزيمة موسكو لا تتطلب سوى الإطاحة بترامب، وهذا اعتقاد ساذج.

فعملاء المخابرات الروسية قاموا مباشرة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي باستلام نفس المواقع التي كان يشغلها السوفييت، واستمروا في طلب نفس المعلومات الاستراتيجية والأمنية التي كان السوفييت يطلبونها من عملائهم في عز دولتهم، لم يتراجعوا قيد أنملة، وكأن نهاية الحرب الباردة لم تكن سوى معركة خاسرة في الحرب وليست الحرب نفسها، وبهذا النّفَس المُصِرّ على البقاء والصمود والتحدي؛ بلغ الروس اليوم إلى أن يؤثروا على الرأي العام الأمريكي وهم على بعد آلاف الأميال، أليس هذا أمرا مذهلا يستحق الإعجاب ورفع القبعات؟.

يقول جمالي إنه في حين كان الاتحاد الروسي ينظر إلى الأمريكيين كعدو، كانت نظرة الأمريكيين مختلفة شيئا ما، ففي عام 2005  كان جمالي يعمل لدى مكتب التحقيقات الفدرالي كعميل مزدوج ضد الروس، في تلك الفترة التي كان فيها ضباط التشغيل الذين يعمل تحت إمرتهم يركزون على عدوهم القديم في الحرب الباردة، كانت أمريكا برمتها منشغلة بتنظيم القاعدة والحرب على الإرهاب، وكان عملاء مكافحة التجسس يعانون من شُح الموارد وقلة الدعم، لدرجة أن جمالي كان كثيرا ما يمازحهم حول سياراتهم المهترئة المثيرة للشفقة، لقد كان المحققون وضباط مكافحة التجسس يخوضون حربا غالبية الأمريكيين يظنون أنها قُضِيت وأصبحت في عداد الحروب التاريخية التي تؤخذ في درس التاريخ بالمدارس، فكيف للمكتب الفدرالي أن ينفق أمواله عليهم في الوقت الذي تعرضت فيه الولايات المتحدة لهجمات إرهابية غير مسبوقة؟.

لم يكن الروس في أجندة أولويات الولايات المتحدة وأجهزتها الأمنية في غمرة حربها على الإرهاب، وتعقب أعضاء القاعدة في شقوق الأرض وكهوف الجبال، بينما الروس لم يكونوا ليضيعوا فرصة كهذه يغفل فيها العدو ويتخلى عن مواقعه؛ ليُكوّنوا شبكة من العملاء والجواسيس ومراكز الضغط الموالية للروس حتى داخل الحزب الجمهوري.

ويحدثنا جمالي في مقاله المذكور؛ أن الحديث مع مسؤول استخباراتي روسي كان دائما تجربة حساسة وصعبة، فليس للروس ميول إلى الأمان، يردف جمالي، فهم لا يثقون عادة في أي شخص أو أي شيء كان، وكان التكتيك الذي يستخدمونه لتجنب مراقبة مكتب التحقيقات الفدرالي؛ سهلا وبسيطا، لكنه فعال للغاية.

يضرب لنا جمالي مثالا على ذلك، فعندما كانوا ينهون معه أي لقاء؛ كانوا يمدونه “بمنيو” (قائمة طعام) أو بطاقة عمل

(business card) لمطعم آخر، ثم بعد أسبوع أو أكثر، يتلقى مكالمة هاتفية تدعوه للغداء، وبعد انتهاء اللقاء تتكرر نفس العملية، لم تكن أي محادثة تتم عبر الهاتف أو البريد، فالروس يعتمدون منهجا صارما لتأمين التواصل مع عملائهم، أساسه أن الاتصال ينبغي أن يتم عبر المقابلات الشخصية المباشرة فقط، وهذا يعني،حسب جمالي، أنه لولا أن عملاء المكتب الفدرالي كانوا يعلمون مسبقا المكان الذي سوف يلتقي فيه الطرف الروسي؛ فإن عملية المراقبة والتعقب سوف تكون في غاية الصعوبة، “لقد شحذ الروس آلتهم، بينما الأمريكيون يعانون الأمَرّين في سبيل تشغيل الجهاز وإعادته إلى سابق عهده”.

ويُعبّرُ العميل الأمريكي -وأيامه في الخدمة تشارف على نهايتها- عن مخاوفه إزاء هذا التفاوت بين البلدين في هذا المجال الحيوي، ويقول إنه في عالم ما بعد الحرب الباردة؛ من السهل تفهم مدى صعوبة تبرير الدعوة إلى الإنفاق العالي على جهاز مكافحة التجسس وإقناع السياسيين بخطورة الوضع، وهذا الذي منح فرصة مثالية للروس لمهاجمة الولايات المتحدة والتحرش بها في عقر دارها، معتمدين على نفس الأيديولوجيا والعداء الذي كان يحدو السوفييت قبل عام 1989.

قد يعجبك أيضاً

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.