الرئيسية » تحرر الكلام » متى يجدر بالداعية إلى الله الصمت؟

متى يجدر بالداعية إلى الله الصمت؟

   أعظم مهمة في هذا الكون هي الدعوة إلى الله تعالى، ونشر نور شريعته في الأرض، وتحبيب الناس في الجنة .. وبالتالي العمل الصالح وعلى قمته حسن عمارة الأرض ونشر الخير بين جنباتها، على أن الدعوة إليه تعالى يفهمها البعض كثيرًا على وجه خاطئ إذ يظنون الداعية هو الإمام أو الخطيب الذي يُصلي بهم أو يعظهم أو يخطب فيهم الجمعة والعيدين فحسب.

    ومن القواعد المُسلم بها في الشريعة الخاتمة، وهدي الله ونوره الأخير إلى الأرض .. من قواعد الإسلام الأساسية أن دفع الضرر مقدم على جلب المنفعة، بمعنى أن العمل على منع الشر في الأرض أو مجرد الإساءة إلى أحد مُقدم على الرغبة في نفع البنيان ومن قبل الإنسان، فإن ثبت أن فعل أحدنا سيترتب عليه ضرر أكثر مما سيترتب عليه من نفع؛ فإنه من الواجب شرعًا أن نتوقف حينها عن الفعل المُحتمل للخير لكن بنسبة طالما كان شره أكثر.

    ومن الناس مّنْ ذاع صيته وانتشر اسمه كداعية إلى الله بالقول والوعظ وربما بالعمل، وكانت شرائطه الصوتية محببة إلى الملايين من الشباب الراغب في الالتزام، ثم دارت الأيام دورتها، وأتت أقدار الله تعالى بما لم يكن لا في حسبان الداعية ولا الشباب الذين صاروا كهولًا بفعل الأحداث والمحن أولًا قبل أفعال جَرَّتْ على الأمة وملايين الشباب مالم يكن في الحسبان، إذ كانت النتائج تقول بالخير القادم .. فيما عدم وجود تفكير كاف أودى بالملايين إلى متاهات من أبواب الشر.

   ومع الفارق الشديد يستحضر الذهن الإمام الفقيه “أبو حنيفة النعمان”، رحمه الله، لما جلس يعظ الناس عن وجوب الصيام ووقته، فدخل رجل مُسن فجلس في مقابل الإمام وكانا على الأرض، وكان بساق الإمام ألم فطواها بأسفله متحملًا المعاناة وإن اشتدت، فيما راح يكرر:

ـ يجب الصيام متى ظهر الخيط الأبيض من الأسود من الفجر ..

فقال الشيخ المُسن:

ـ ولكن إن لم يأت الفجر .. فماذا نفعل؟

فقال الإمام “أبو حنيفة” على البداهة:

ـ إذًا فليبسط أبو حنيفة قدمه..!

     والمعنى المُراد أن الإمام احترم عقل الرجل لما ظهر الاحترام والفهم والذكاء على محياه؛ فلما افتقدهم كان حقًا لـ”أبي حنيفة”، رحمه الله، أن يبسط قدماه في وجهه..

     وقليل من الدعاة لا يراعون أن العمر المناسب لإصدارهم الفتوى أو أن البيئة الخاصة بهم بمتطلبات الإلمام بأبعادها اجتماعيًا وعقليًا قد فات أوانهما وولى، وأن الأجدر بهم الصمت؛ ووعظ الناس وتوجيههم عبر المزيد من جميل الصفات والأفعال إن لم يعودوا قادرين على التفوه بالكلمات المناسبة في الوقت المناسب، وكم لفاعل الخير الدال عليه بسلوكه من مكانة عالية مرموقة بالإسلام؟!

   وليس صاحب هذه الكلمات بقاصد داعية بعينه ولا شخصًا، أيًا مَنْ كان مع الاحترام لجميع الدعاة المخلصين بالطبع؛ ولكن ربما انطلق من مسيرة أحدهم للأمانة ..

    ومن الدعاة إلى الله مَنْ تربينا على كلماتهم، وتفتحت مداركنا على جميل السلوكيات التي كانوا ينصحون المجتمع بها، كل في مجال عمله، ولكنهم مؤخرًا؛ (وواو الجماعة وميم الجمع هنا لتعمد عدم الإشارة إلى أحد بعينه لا للكثرة)؛ لكن مرور الوقت جعل أحدهم لا يرى الأحداث كما ينبغي .. وإن كان يتراجع عما لم يُحسن فهمه أحيانًا.. بخاصة في أمر الديمقراطية وكفرها لمّا فرّق له البعض بين الديمقراطية كمنهج فكر وبينها كآلية انتخابية ..

   ولكن الأمور “عظمت” على الداعية مجددًا فراح يكفر هنا وهناك دون تدقيق؛ وكان على رأس المُكفرين برأيه عالم راحل أفضى إلى ما قدم وطلب الدعاء من الشعب الذي ينتمي إليه قبيل وفاته، وبعد لأي ومحادثات هنا وهناك تراجع الداعية عن تكفير الراحل ورميه بالفُجر في كل مجلس عام وخاص.. والعياذ بالله.

    ولكن انتشار وسائل التواصل الاجتماعي والبث على الفيسبوك وتويتر جعل الداعية لا يراجع أحدًا ويُصدر أحكام التكفير مجددًا فلا تطال حاكمًا تحدى شرع الله مؤخرًا بل تصل إلى رفقاء الدرب الذين رأوا رأيًا خالف رأي الداعية .. وذلك في درء المفاسد العظيمة .. إلا أن الداعية ركز على جلب المصالح وإن قلَّ، وكان للخلاف أن يمر لولا أن الداعية بادر إلى القول التكفيري من جديد بحق رفقاء الدرب مع الظالم سواء بسواء.

   أما الذين يريدون التلاعب بشرع الله .. فأمرهم ليس جديدًا على وطننا العربي  الإسلامي سواء أكانوا حكامًا او غيرهم، وكم راح أمثالهم إلى مزابل التاريخ فيما بقي الشرع الحنيف، وهم إنما يفعلون في فقه الواعين المُدركين لحيثية أفعالهم .. ليداروا على خطاياهم الفاحشة في الحكم ولجلب المزيد من الفقر لبلادهم وشعوبهم، وإدراك الأمر في هذا الحيز يقلل من فرص التعرض لهؤلاء بما يجلب المزيد من المشكلات للداعية ويحقق للطاغية أهدافه، وهو ما لم يستوعبه الداعية فتسبب في أزمة جديدة من نوعها بين بلد محترم أواه وبلد يتصدره ظالم ..

    غني عن البيان إن كلمة كافر لا ينبغي، بحال من الأحوال، أن تطلق على ناطق بالشهادتين إلا في حدود بالغة الضيق يحددها العلماء المُختصين الثقات الوازنين للأمور بحق.. المُدركين للعواقب بوضوح .. المحافظين على شرع الله ورضاه علمًا قبل قولًا .. وبالتالي فإن الأجدر بغيرهم الصمت ما لم يدرك مغبة وتبعة ما يقول .. وعليه الاكتفاء بوعظ الناس بجميل الفعال الموزونة لا المزيد من الكلمات التي لا يدري قائلها أي بلية جديدة ستجر عليه وعلى دينه وعلى البلاد والعباد، أجارنا الله!

قد يعجبك أيضاً

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.