الرئيسية » تحرر الكلام » الحياة: خشبة لمسرح توالت عليه الشخصيّات والدّمى

الحياة: خشبة لمسرح توالت عليه الشخصيّات والدّمى

كثيرون هم الّذين تحدثوا عن الوقت ، أهمّيته و الفائدة المترتبة على استثماره اذا ما قمنا باستغلاله بشكل يليق به  و يليق بالنتائج المترتبة على تسربه المحتوم ذاك ،  و العكس بالعكس إذا ما كان ذاك التسرّب المحتوم قد كُتب عليه يوماً أن يكون بلا جدوى في أعمارنا المقدّرة  و بين صفحات أقدارنا تلك.

فتمسي تلك اللحظات تماماً كحبات رمل وضعت بين يديّ طفل لم يتعدى الخمس سنوات من العمر  ليلهوا بها قليلا قبل أن  يملّ ذاك الأخير شكل  يده المقبوضة حول تلك الحبيبات فاتحاً قبضته  ، تاركاً العنان لتلك الحفنة أن تلهو مع الرياح قليلاً بعد أن حملتها نسمات ذاك الشاطئ نحو المجهول حيث اللا عودة ..

رغم كثرة المقولات تلك،  و يستحضرني الآن مقولة جميلة للكاتب وليم شكسبير حينما قال :

“هناك ثمة وقت في حياة الإنسان إذا انتفع به نال فوزاً ومجداً، وإذا لم ينتهز الفرصة أصبحت حياته عديمة الفائدة وبائسة.”

إلا انك لا تستشعر بقيمة تلك الكلمات و جمالها إلا حينما تقابل أحداّ يقدّس الثواني وليس الدّقائق و حسب و يحترمها ليحترمَكَ من خلاله ..

و كان قد حصل ذلك معي حينما كتب لي أن أحظى باتصالٍ لأحد الصّحفيّين ، بناءً على طلب و ترشيح اسمي مع اثنين من الطّلبة  من قبل أحد اساتذتي في الجامعة.

كان قد اتصل ليخبرني عن موعد لقاء صحفي هاتفي مدّته لربما لن تتجاوز العشرون من الدّقائق ، ليحاورني و يسألني عن ذاك الطّريق الطّويل الذي اخترته عن دراية لأتقن لغة من أصعب لغات العالم و عن النّشاطات الموفّرة من قبل الجامعة و التي كنت قد  شاركت بها لأُحسّن نطقي اللّغوي.

اي بتعبير آخر , كان قد اتصل ليحدد موعد اتصال آخر حيث سيتم الحوار الهاتفي لفترة محددة من الزمن قبل أن يرسل رسالة الكترونيّة مؤكداً على تلك المكالمة الهاتفية التي سبقت ذاك اللقاء الهاتفي الغريب الفريد من نوعه و الغير مسبوق بالنسبة لي ..

حينها، وددت كثيراً أن أخبره أنّه لا يتوجب عليه فعل كلّ ما سبق،  فسواء  إن تأخر أو حتى خلف بموعده و وعده ذاك فإن روحي لم تعد تسستشعر ألم تلك التفاصيل الصغيرة بعد اليوم  بل لربما لن تستنكر ذاك التصرّف أيضاً..

فكم كنت أودّ أن أخبره عن عدد المرات التي استقبلت روحي مثل تلك الاكاذيب،  الوعود و الآمال المنسوجة بالأوهام و كم من الأشخاص الّذين كان قدري مرساة لتصرفاتهم الرّعناء و كم و كم و كم … 

أعلم أنكم تتساءلون لماذا تراني اخترت من الوقت مقدمة و مدخلاً لمقالي هذا ؟

سأجيبكم يا سادة و لكن قبل ذلك افسحو لي المجال أن أكمل هذه الخاطرة التي طال انتظارها ليس عليكم و حسب بل حتى على روحي المتعبة،  قلمي و على لوحة المفاتيح الخاصة بحاسوبي المحمول هذا و هو يستقبلها بحروفها العربية المحببة لي و له ..

في الواقع، حينما قررت أن أخط هذه الخاطرة للمرّة الأولى بنسختها المسوّدة كان فصل الشتاء  قد لاح بيده مودّعاً هذا المكان  واعداً إيّانا العودة مجدداً بعد بضع من الأشهر آخذاً معه أحلاماً باتت مهترئة يائسة سئمت حتى من الانتظار ، فهناك أحلام تزورها الشيخوخة المبكّرة ليأخذها الموت من حياة البعض،  إذا ما  أدخلتهم تلك الحياة ديمومة جديدة من ديموماتها لتضعك دائماً في موضع  الشخص الذي يصارع حتّى ذرّات التّراب التي تقبع تحت قدميه ليس ليبقى على قيد الحياة بل ليبقى على قيد الأمل….

صحيح أن فصل  الربيع هنا قد بدأ يلوح في الأفق منذ بضعة أيام ، إلّا أنّ برودة الشتاء المنقضي مازالت تزورنا بين الحين و الآخر و كأنّها تريد أن تذكرنا  بأحلامنا المنصرفة مع رياحها المنقضية تلك قبل أن تبعث لنا بنسمات من أنقاض تلك الرياح و أنقاض ما كانت تحمله يوماً…

خرجت ذاك اليوم من منزلي كاسرةً روتين أيّام هذا المكان و مسنناته الغبية تلك لأقصد مكاناً لطالما يشعرني بحياة دونما قيود ، فهو  ملاذي الأوّل و موعد لقاء مع ذاتي الأولى حيث طفولتها، براءتها و روحها المفعمة بالأمل ، فقد اشتقت إلى لقياها بين زخم هذه الحياة بصخبها و ضجيجها اللّا منقطع حيث لحظات من الصّمت، الحبّ ، الاحساس و الكثير من معاني الأمل و الأدب الرفيع، هناك حيث أسترجع و لو لساعات روحي التائهة تلك ..

دخلت المكان فرحة ملوّحة بتلك  التذكرة في يدي بعد أن أعلمني الشخص القابع خلف ذاك الشّباك الصّغير أني حظيت على التذكرة الأخيرة بين المقاعد المتواجدة في منتصف  المدرّج، حيث تكون الرؤية واضحة تماماً قبالة خشبة المسرح تلك.

فاليوم كان لي الحظ بمشاهدة عمل مسرحي يتناول قصة غلام يهودي و رجل طاعن في السن اتخذ من الصّوفيّة ديناً و مذهباّ..

جلست على ذاك المقعد أنتظر بفارغ الصّبر أن تُفتح تلك السّتارة الحمراء لتكشف لي خفايا هذه القصة الغامضة التي ما أن سمعتُ رؤوس أقلامٍ حولها حتى ذهبت مباشرة استعلم عن مواعيد و مدّة عرضها في مدينة مونتريال حيث أقطن،  فهي قصة من تأليف و تمثيل فنان فرنسيّ الأصل …

و إذا باليأس يدخل  روحي مجدداً حينما علمت أن العرض سينتهي في غضون أسبوع  ..

كيف لا و هذا الأسبوع سيصادف أسبوع مليء بالامتحانات الجامعيّة، فمنتصف الفصل الدراسي قد لاح على أبواب أيّامي مجدداً…

” يا لحظي العاثر فيبدو أنني لن أكشف غبار غموض هذه القصة المبهمة الملامح ” ، قلت حينها قبل أن أعلم أنّ هناك امتحان من أصعب الامتحانات في الجامعة  سيؤجل  لعدم استكمال اعطاء المادّة بسب اِضراب طلّابي سيقام في اليوم التالي..

لأشعر ثانية أن القدر له رأي أخر و أنّ له كلمة أخرى على الدّوام مروراً بأصغر حدث دنيوي  وصولاً إلى الأعظم منها ..

ما إن فتحت السّتارة حتّى راح تركيزي نحو تلك الخشبة آسراً إيّاي دون حراك كيف لا و تلك السّاعة و النّصف القادمين من  مستقبل هذه الليلة  القريب لن تغدو باللغة الفرنسية و حسب بل ستمسي دون قاموس يرشدني إلى معاني المفردات الغريبة الجديدة على مسامعي،  بل و دون وجود أحد يشرح لي ما فاتني و يهديني إلى المعنى العام لأتابع مسير الأحداث دون نقصان يودي بي إلى الضّياع بين تتاليات ذاك الواقع المستعار لمدّة ساعة و نصف من الآن ..

كان مسرح يتصف بالفخامة قليلاّ ، ففي الأعلى يوجد شرفات  مطلّة على تلك الخشبة مباشرة،  و كل واحدة من تلك الشرف كانت تحوي طاولة صغيرة الحجم اصطفّ عليها بعض المشروبات ، ليجلس فيها أشخاص بدو لي أنهم من الطبقة الارستقراطية ..

و لكن اغرب ما كان في هذه الليلة هو أن الجميع دون اسثناء ،ما عدا شخصي المتواضع، كان يرتدي أفخم الملابس و أجملها ، بل و إنّ النّسوة كانوا قد تزيّنوا بأجمل الحليّ ، ناهيك عن روائح العطر الزخمة القاسية تلك، ليس على حواس الشم و حسب بل حتى على استيعاب تلك القاعة،  لتشعر للحظات أنّك في أحد حفلات السّمر المسائية و ليس عرض مسرحيّ و حسب  ..

حينها علمت أن قدومهم إلى المسرح في هذه البقة من الكرة الأرضيّة هي  بمثابة مناسبة استثنائية بالنسبة لهم .

في تلك اللحظة،  رحت أخقي ابتسامة غافلتني بعد أن رحت أحادث نفسي قائلة : يبدو أن التّواضع لا يفيد في كل الأوقات و يبدو أن هذا المكان المربع هو أحد الأماكن التي يمكنك فيها أن تميّز شخص عن آخر من حيث طبقته الاجتماعيّة التي قد أتى منها أو ربما تلك الطّبقة التي يريد أن يوحي إليك فيها أنه قادم منها و ذلك على عكس شوارع هذا المكان عادةً و ما تحويه من مارّة ، فهنا تشعر في كثير من الأحيان أن جميع سكّان هذه المعمورة سواسية …

و لكن، كيف ؟! كيف لي أن أخبرهم أن المسرح هو مكان للتّباهي بالأدب ،  جمال الخلق، و لإغناء الفكر و الرّوح و لا يحتاج ذلك إلى كل هذا التأنّق ، بل و كيف لي أن أخبرهم  أنّني أرى أن هذا المكان ما هو الا  بئر من الحكمة حيث يفيض بين الحين و الآخر بأكثر القيم جمالاً حيث النّصوص الأدبية الّتي صيغت بأروع الأقلام لتصل إلى قلب و عقل المتلقّي و ليس إلى ثيابه و هيئته تلك !

و لكن ماذا إذا ما كانوا يرتدون أجمل الثّياب ليقابلوا ذاك الجمال بأجمل هيئة ؟ أتراني أخطأت التّقدير ؟ لا أعلم و لكن لا أنكر أنّني سأمسي المرّة القادمة أكثر تأنقاً و جاهزيّة و ذلك على عكس مرّات سبقتها في أماكن و بلدان أخرى ..

قطع سلسة  أفكاري اللّا متناهية تلك بدأ ذاك الممثل الكلام ليوحي إلينا أنّه في المنزل يتحدّث إلى والده ..

هلّا أمهلتني دقيقة لأفهم ما يجري حولي أرجوك ، هلّا توقفت عن سيل الكلام اللّا منقطع الّذي بدأت به منذ قرابة العشر  الدّقائق إلى الآن ؟

فيبدو أنني بحاجة لبضع من الوقت لأفهم ما يدور حولي قلت أهمهم لنفسي مجدّداً ….

ليس صعوبة الكلمات هي التي استوقفتني و لا حتى لكنته الفرنسيّة تلك ، فبالرغم من فهمي لكل معنى كان يريد أن يوصله لنا إلا أنني لم أفهم هذا النّوع الغريب من المسرح أو بتعبير أصح لم أستطع أن أمنع نفسي من الأنبهار بجماليّة ذاك الأداء و روعته لأغدو شاردة الذّهن ، مشوّشةً عن تلقي الحوار الّذي كان يدور حينها  للحظات..

لأسأل نفسي دون توقف ..

كيف ؟ كيف استطاع أن يوحي إلينا أننا نشاهد ثلاث شخصيّات مختلفة بمستوى ثقافي ، ديني بل و بمراحل عمريّة  مختلفة  و لكنات متضادّة و لم يعتلي تلك الخشبة إلّاه ؟ بل هل من الممكن أن تمسي أنظار الحضور طول فترة ذاك العرض موجهة نحوه فقط .

لأجد نفسي في ذات اللحظة أجيب على ما سبق قائلة:

ما بالك يا عزيزتي ارتسمت الدهشة على ملامح وجهك الحادّة تلك،  ألم تشاهدي ذاك المشهد، التمثيلي من قبل..

ما بالك يا أنا  ، كيف لي أن أرى هذا المشهد من قبل و إنَّها المرّة الأولى الّتي أرى فيها هذا الشخص ..

آه صحيح فقد كنت قد أخطأت التعبير،  ففي حياتك الواقعية لم تكوني قد تجهّزت كاليوم لتلقي مشهد تمثيلي و لم تعلمي حينها انك لربما ستشاهديه على مدار أيام  أو عوام من سنوات عمرك المنصرمة قبل أن تكتشفي و تستنبطي معالمه و خلفيّات ذاك الحوار …

فهمت، لا تكملي أرجوك يا أنا…

لا دعيني أذكرك،  فإني أخاف عليك النسيان…

نسيان تلك الأقنعه ، الأدوار و المشاهد التمثيلية؟!!

نعم و لكن من أين لي أن أبدأ يا ترى،  هل أبدأ بقناع الصداقة الّذي غرز بذاك المسمىّ مخالبه السّامة على مدار أيّام عدّة  من أعمار البعض دونما عودة، ليعبر عن غدره ذاك…

أم تراني أحدثك مجدداً عن تلك الابتسامات الجمّة التي ارتسمت في وجوه من كان يحمل من الحقد ، الحسد و الضّغينة الكثير الكثير لابساً ذاك القناع ليخدع به من حوله ممن كانوا يملكون من الحظ العاثر  أعظمه حينما دخل حياتهم يوماً..

أم أني أعود لأسرد على مسامعك تلك  القصص حول قناع الحب ذاك …

ذاك القناع الذي يحمل أسمى الكلمات جمالاً و رقي في معجم لغتنا العربية لتمسي ملاذاً يتخفى خلفه من لم يمتلك حتى مفهوم راقي ليمارس فيه كراهيته المعلنه او حتّى المبهمة بطريقة مشروعة راقية و سامية …

و كم من الشّخصيّات كانت قد أختارت أن تكون دمى على خشبةٍ لمسرح الحياة هذه ..

لم تسرقني أفكاري كثيراً من واقعي الجميل حينها، فاستمراره في أداءه المتقن أخرجني من أفكاري بعد أن تمتمت على عجالة قائلةً معيدةً على مسامعي بصوت أشبه بالهمس مقولة شهيرة أخرى للكاتب شكسبير حينا قال :

“الدنيا مسرح كبير ، وكل الرجال والنساء ما هم إلّا ممثلون على هذا المسرح .”

كنت مازلت أسيرةً  لبعض جمل تلك المسرحية، و إذا بي أعيدها بين ثنايا روحي خوفاً عليها من الضياع حينما رحت أمشي في شوارع هذه المدينة التي بدت نائمة بعض الشئ ، فارغة.

لأشعر في تلك الليلة أنّني طفلة أضاعت  الدّرب حينما تركت ثوب أمّها الحريري ذاك،  و الذي كان يأخذ بيدها نحو الطريق الصحيح فراحت تتخبط باحثةً لها عن خيط  رفيع من خيوط أشعة الشّمس تلك علّه يأخذ بيدها نحو ذاك الثوب مجدداً …

و لأني يا أمّي لم أعد بصغيرة،  لم استطع البكاء حينها  ،  فعلى ما يبدو أنّني لم أعد قادرة على التّوهان في بحر هذه الحياة ذو الأمواج المتلاطمة من جديد،  فاطمئني يا أمّاه ..

إنّ كلّ ما في الأمر أنّني في تلك اللحظة لم تشأ خطواتي أن تأخذني نحو ذاك القطار القابع تحت الأرض و الّذي يقلّني عادةً نحو نهاية سكّته الحديدية تلك التي ترمي بي أمام منزلي كما جرت العادة…

فحينها صحيح أنّني لم أضيع الطّريق إلا أن أفكاري  قد تاهت  مجدداً وسط شيزوفرانيا “فصام” هذه الحياة ..

فعلى الرّغم انّني كنت الفتاة الوحيدة في القاعة  التي ارتدت ثياب تنم على ديانتها ، و على الرغم من أنني تلقّيت بعض النّظرات من بعض الحاضرين  إلا أنها كانت نظرات تخفي خلفها سؤال استغراب و ربما استهجان ، نظرات لا يمكنني وضعها تحت بند العنصرية و لا حتى الاستخفاف بكياني،  عقلي ، اعتقادي أو حتى شخصي..

نظرات لم تزعجني البتّة على عكس تلك التي وجدتها و مازلت اجدها بين الحين و الآخر ، و الّتي كانت قد التصقت بأبناء ملّتي بل و أبناء ديانتي أحياناً ، ممّن يستخفون بذكائي، عقلي و فهمي لنظراتهم، أقوالهم و أكاذيبهم القابعة خلف رنواتهم الهاربة و حشرجة أصواتهم تلك .

و المفارقة أنّ النّظرات القابعة بين جدران ذاك المسرح  و الّتي كانت تعبّر عن سؤال خفي،  لم تؤثّر عليّ سلباً و ذاك عكس نظرات بعض الذين قد قدموا من الشرق الاوسط ، أم تراني أقول قد باتوا الأغلبيّة لا البعض، حيث أصلي الذي مازلت بالرغم من تواجدهم أفتخر به .

أما عن سؤال تلك الأعين التي كانت متوجهة نحو تلك السّتارة بانتظار بدء ذاك العرض فقد كان فحواه : أتراها ستكون قادرة على فهم هذا العرض الصعب على المتلقي و الأصعب على ذاك الممثل المسكين أم تراني أقول الجبّار ؟!!..

كيف لا و هو اختزل رسالة الأديان التي فحواها السّلام حينما ابتدأ باليهودية ليُدْخل الأحداث نحو ديننا الحنيف و حب ذلك العجوز المسلم للطّفل اليهودي و بالعكس ، و مساعدة ذاك الشيخ الطاعن بالعمر له و وفائهما لبعضهما البعض بغض النظر عن ديانتيهما المختلفتين،  و لينهي تللك اللّوحات المسرحيّة بشعور ذاك الصوفي المتغرّب الذي اختار الموت على تراب موطنه ليدفن تحته ، أي تحت تلك الحبيبات التي كانت قد  اختلطت يوماً  بمياه أمست غوراّ لكثرة شوائب ذاك القاع، و ليكتشف أن قدميه تلك لم تعد قادرة على الصمود أكثر دون التّلطّخ ، الغرق و دون التأثر بتلك الشوائب في زمن من الأزمان حينما اختار الاغتراب منجىً و سبيلاً ، أم تراني اقول حينما كان قد أُجبر على المسير وسط ذاك الطريق الذي كان يعتقد انه هو المنجى و السبيل ..

و لأنه يعلم أن جسده دون تلك الروح  لن تتأذى بعد ذاك اليوم أينما حل ذاك الجسد أو ارتحل , اختار أرضه حيث جذوره الأولى و حيث حلمه بالبقاء الذي لم يكتمل ليحط برحاله الأخير …

و في مشهد  موته ذاك ختم هذا الانجاز الفنيّ بمقطع حوار مع ابنه المتبنّى حينما قال له :

لا تبكي عليّ اليوم يا بنيّ ، و إن كنت ترغب بالبكاء اليوم فابكي على نفسك لا عليّ …

فأنا قد ناهزت من العمر ما يقارب السّبعين منه .

أمضيت من العمر حتى  وصلت إلى خريفه هذا ،حيث المحطّة الأخيرة ،و لكن ، و قبل وصولي إليها كنت قد حقّقت كل ما كنت قد صبوت إليه ..

فأنا يا بنيّ تعلّمت معنى طرق باب الله،  و عرفت الطريق إليه و تعرّفت على محبّة الجليل لذلك الطّارق …

و انا يا بنيّ ، اسّست عملي الخاص بي ، أحببت ، تزوّجت ممّن اختارتها روحي يوماً ، و رافقتها حتّى أوصلتها المحطّة الأخيرة ، واعداً إياها اللّحاق بها في موعد لم أعلم له تاريخاً إلّا اليوم …

ليس ذلك و حسب ، فأنا يا صغيري،  تغّربت و اكتشفت بلداناً و رأيت من الملل الكثير و من الأماكن الكثير الكثير  ، و  أخيراً حظيت باِبن و أنا في خريف هذا العمر ..

فماذا تراني أريد بعد اليوم يا ترى ؟

و على من توجّب عليك البكاء يا بنيّ اليوم، على شيخٍ هرمٍ مثلي ،أم عليك،  على وقتك المهدور ذاك دون أن تستشعر لذّة ما مرَرتُ انا به ، أم على مستقبلك المجهول وخوفاً منه….

لأجد نفسي على ذاك الرصيف أكرر على  نفسي تلك الأسئلة قبل أن أعقب قائلة :

أنت يا سيد ابراهيم كان لك من الحظ الوفير حينما كُتب لك في أقدارك المرسومة من قبل ذاك الكاتب أن تحظى بأناس لم يغلب شرّهم خيرهم يوماً  .

فلذلك كنْتَ قد نسيت أن تسأل ياسيدي كم يا ترى قد خسرت روحك من نقاءها الأول ذاك بسبب مصادفة أمثالهم ممّن يعيقون ليس تقدّم المهارات الدنيويّة المكتسبة لأحدهم و حسب  بل  و يحدّون من نموّ شخصيّاتنا في وقت من الأوقات .

لتنسى ان تضيف على أسئلتك سؤال آخر :

هل مازالت صفقة رابحة إلى اليوم إذا ما قمنا بمعادلة التناسب بين ذاك الوقت المنصرف  مع العدم، و بين ذاك الآخر المتبقي في حياة المرء الذي اتّصف باللا أبديّة ..

فكم من الشوائب كانت  قد زارت  أرواحنا ، ام تراني أسأل:

كم من الشوائب التي كانت تنمو و تتكاثر يوما بعد يوم داخل أرواح من حولنا لتنقض على أرواحنا بطريقة أو بأخرى قبل أن نصد تلك الهجمات واضعين حدّاً لها عند أبواب أرواحنا خوفاً من أن تشيبها شائبة أخرى تأخذ بيدها نحو هاوية لا أمل منها و لا مرتجى..

لنتساءل في تلك اللحظة:

ترانا كم من الوقت استغرقنا ، أضعنا و استهلكنا قبل أن نتخذ قرار المغادرة ذاك ..

المغادرة حتى من أرواحنا تلك ، في ذاك اليوم الذي شعرنا فيه أنها باتت غريبة عنا ، لنواجه حرباً داخليةً أخرى بين إعادة استخراج و  استكشاف الذّات الأولى من جهة و العمل على ترميم روحك الآنية في زمان كنت تحاول انعاش ما تبقى من  أشلاء روحك القديمة  تلك قبل أن تكتشف أنك ستصبح أمام حربٍ جديدة من حروب النفس على أرض ما هي بأرضك ،  بعد اتخاذك قرار ترميم ما تبقى من أحلامك تلك ..

و لكن يا سادة ،  في لحظة حربك الداخليّة الأولى ، و في اللحظة التي لم تكن  تمتلك روحك القدرة بعد لتستشف تلك النّهاية  “أي نهاية السيد ابراهيم ” ، تبدأ تأمر خطوات أقدامك بالمشي فالهرولة و ربما الجري ظناً منك أن مسيرك على أرض غريبة عنك سيمسي أكثر سهولة يوماً،  و إذا بك تواجه صعوبة تلو الأخرى حتى تبدأ نسيان عدد الخطوات ، الأيام و ربما السنين وسط مسنّنات ذاك المغترب .

أم لعلّك تتناسها خوفاً من أن يزورك شعور التردّد في اكمال الطّريق الذي كنت قد أخترتَه و أنت بكامل قواك العقليّة و النّفسية ربّما ،قبل أن تشعر أنه أحياناً سيكون لك قرار في اللا قرار حيث أنت مسلوب الخيار ، ليحكم عليك خلف قضبانه حكماً لا يمكنك أن تنقده و لا يمكنك حتّى أن تطلق عليه  بالمؤبد كيف لا  و أنت خلال مسيرتك هنا مهما بلغت من طول ذاك الطريق  أو قصره لابد أن تصادف أحداً ممن اختار هذا المكان قبلك دون أن يعلم أن القدر سيكتب له من الاغتراب العشرون، الثلاثون،  و الاربعون من السّنين ،و ربما أكثر من ذلك بقليل ، لتمسي الايام تتعدى حكم المؤبد بكثير..

سنين كان قد عاش الانسان أفراح، أحزان ، أحداث موطنه، و تغيرات أهله و جيرانه الجسدية ، النفسية و حتّى الاجتماعيّة من على بعد مئات الآلاف من الأميال فإذا به تائهاً وسط ماضيه المتأرجح بين ذكرياته تارة  و بين حاضره الحاضر الغائب تارةً أخرى ، و كأنه لا يربطه بتلك الذاكرة إلا  موجزاً للأخبار أرسلت له عبر  مكالمة هاتفيّة أو عن طريق بضع مقتطفات من مقطع صوّر فيه لحظة ذاك الحدث دون وجود رسمٍ لوجهه بين الوجوه ليبتسم و يحزن،  يبكي ويضحك، يتأمل و ييئس، يتفاعل و يعزف عن التواصل ، و كلّ ذلك و هو يجلس خلف شاشة لا تتعدى أيضاً البضع من الإنشات…..

و لكن أكثر ما يثير تعجّبّي , حينما استشف أن رغم كل التغييرات التي مرّت ،سواء بك،  بموطنك أو حتى بأحبائك من حيث العمر ، الحكمة و النّظرة الى الحياة الّتي باتت اكثر عمقاً ، الّا أنّك اذا ما كتب لك القدر أن تتواصل بطريقة أو بأخرى مع من كانوا قد لوّثوا روحك الأولى تلك حتى تكتشف أن أرواحهم قد تغيرت أيضاً و لكن المفارقة هنا أنّها في تدهور مستمر نحو تلك الهاوية التي لا أمل فيها و لا مرتجى ،و التي كنت قد أدرجتها في مقالي سابقاً،  لتتأكد ثانيةً أنّك كنت على اعتاب هاوية لا أمل منها و لا منجى و لتعاود شكر الإله

مئات المرات من جديد.

و كلّ ذلك حينما تكتشف أن أرواحهم تغيّرت أيضاً حينما  استجلبت طرق و شوائب جديدة آملة أن تقوم بنقل العدوى الى أرواحنا المتعافية تلك ، تلك الروح التي كانت قد ذاقت من الصّعوبات أوجها حتى باتت تجد  شوائب هذه الأروح أذا ما واجهتها مجدداّ تماما كشعور طفل قد كُسرت دميته الجديدة في احدى المساءات  فأخذ يبكي قليلا قبل أن  يغفو بلحظات ،  ليستيقظ في صباح اليوم التالي ناسياً حتّى أنّ والديه قد جلبوا له دمية جديدة بالأمس …

آه يا سيد ابراهيم،  كنت قد خفت أن لا أفهم لغتك الفرنسيّة تلك دون أن أعلم حينها أننّي سأبات خائفة من فهمي لرسائلك المبطّنة التي قبعت خلف تلك الكلمات…..

و بالعودة إلى ذاك الحوار و الصّحفي و علاقتهما بخاطرة اليوم ، فكان لذاك الشخص الذي لم احظى حتّى برؤيته الفضل الكبير..

ففي اللّحظة التي رنّ فيها هاتفي ليضيء برقم ذاك الصحفيّ،  حينما أشارت السّاعة إلى العاشر و بضع ثوان من صباح يوم الثٰلاثاء الماضِ ،حسب ذاك الموعد المبرم سابقاً عدت لأستشعر  أهمية كل لحظة من لحظات هذا العمر  بما حملته من ألم أو فرح ، و عدت لأذكّر نفسي بفضل الله على الانسان حينما اختار له أن يمنحه ذاك الألم  على نفسه البشريّة في لحظة حاسمة قد تكون قاسية في بادئ الأمر قبل أن يستشعر فضل الله عليه من جديد بتلك المنحة السّماويّة .

ذاك الألم الذي له من الفضل الكثير على روحي،  خياراتي،  قراراتي و على قلمي اليوم .

عندها فقط لاحظت ان قلمي استجاب مجدداً لأنين روحي الصامتة تلك  ، حينما قرّر أن يضع حدّاً لانقطاعه عن الكتابة دون حتّى سابق انذار، فقد بدأ بالكتابة و كأنه شخص فقد سيطرته على نفسه حينما راح يذرف دموع الفرح بتحقيق حلم جديد كان ينتظره منذ زمن، فدمع حبر قلمي كان كدموع ذاك الشخص حينما راح يسترد كلماته كاسترداد ذاك الرجل لأحلامه مجدداً و التي كان قد اشتاق اليها وسط ديمومة الزمن من جهة و توالي الايام العجاف التي كان فيها عصي الدمع و الحلم على تلك الورقة البيضاء من جهة أخرى  ، قبل أن يُخبر كل من أنتظر تلك الكلمات أنه مازال قادراّ على أن يخط من الأسطر أجملها لتطرق من جديد باب تلك الأرواح النقيّة ..

مستوحاة من مسرحية :

Monsieur Ibrahim et les fleurs du coran

Théâtre du  Nouveau Monde

تنويه:

الصّورة المرفقة هي مشهد من مشاهد  المسرحية

قد يعجبك أيضاً

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.