الرئيسية » تحرر الكلام » بطّيخة الجدار الفاصل

بطّيخة الجدار الفاصل

دخلت تعديلات جديدة على حوشنا مثل أيّ حوش في المدينة ، فقد بدأ استعمال  طوب الإسمنت في البناء بدلا من طوب التراب الممزوج بالتبن . وكانت الغرف المبنيّة من الطين  تصّف بجانب بعضها و تطّل جميعها على الحوش . بدأ أبي يفكّر جديّا في اضافة غرفة من الاسمنت تكون قريبة من المدخل لاستعمالها غرفة لاستقبال الضيوف ، لأنّا كنّا نستقبلهم في الغرفة الكبيرة ، التي كان لا بدّ من استعمالها للنوم بعد أن أصبح عدد ساكني الحوش كبيرا  . أنهى البنّاء الذي على ما يبدو كان قد تعلّم صنعة بناء الطوب الإسمنتي حديثا  ، لأنّه كان يردد أن عدم انتظام تربيع الغرفة تخفيه الكسارة ، التي كنت أظنّها أداة ما .  بعد اتمام بناء الغرفة كان لا بدّ من بناء جدار من طوب الإسمنت يفصل الغرفة الجديدة عن باقي غرف الحوش الطينيّة ، لنهيّئها لاستقبال الضيوف  .

       لا أعلم من الذي فكّر بطلاء الجدار قبل أن تتمّ كسارته بالإسمنت ، لكنّ أحد ما طلاه باللون الأخضر ، وكانت كلّ جدران البيت والغرف مطليّة بالشيد الأبيض ، لذلك كنّا نسميّه الجدار الفاصل أو الجدار الأخضر لنميّزه عن الجدار الذي يفصل بين حوشنا والحوش المجاور . كان لوجود الجدار فوائد كثيرة ، منها ربط حبال الغسيل ، وتشميس فراش النوم والأغطية بعد أيّام الشتاء الباردة لطرد الحشرات المرئيّة وغير المرئيّة  ، والاختباء وراءه في لعبة الاختباء المفّضلة لنا نحن الصغار . و يستخدم في ليالي الصيف ليوضع عليه الوعاء الذي فيه البطّيخ كي يبرد ، لأنّ تكنولوجيا الثلّاجة لم تكن قد دخلت بيتنا .

      أحضر أبي بطّيخة كبيرة ، من البطّيخ الذي كانت الأرض تنتجه من دون سماد اصطناعي ، حلو مثل السكّر وقلبه أحمر وبزره أسود لا يرمي الناس منه شيئا ، بل يتسلّون عليه بعد تحميصه  . كالعادة قشّرت أمّي البطيخة وقطّعتها ووضعتها في وعاء مسطّح ، ثمّ رفعتها على الجدار الفاصل من أجل أن تبرد . كالعادة بعد العشاء  يجتمع أفراد العائلة  لأكل البطّيخ ، مع خبز الطابون الذي تكون جدّتي قد خبزته في الصباح ، وأحيانا مع الجبنة البيضاء  . كنّا نلعب في الحوش ونركض ونختبأ خلف الجدار الأخضر . لم أستطع أن أقاوم اغراء قطع البطّيخ الحمراء ، خصوصا وأنّي كنت بحاجة لشيء يروي عطشي ، فقلت لنفسي ان أكلت قطعة واحدة فلن يلاحظ ذلك أحد ، أحضرت كرسيّ وتناولت واحدة ولم أنتبه الى أنّ أخي كان  يراقبني .

      أكل أخي أيضا قطعة ، ثمّ ألتهمنا الثانية وكنّا نختارها من وسط الوعاء  . تبادلنا النظرات بعد أن أصبح  معظم البطّيخة في بطوننا . احسسنا بأنّ العقاب لا بدّ سيكون هذه الليلة شديدا . اجتمع أفراد العائلة بجانب الجدار الفاصل. شعرت برعشة في قدميّ . سألت أبي فجأة ، هل صحيح أنّ للبطّيخ مضار كثيرة ، أكثر من فوائده يا أبي . قال أبي مستغربا ومن الذي يقول ذلك . أجبت وبدون تردد ، وقد نسيت أننا في العطلة الصيفيّة ،  المعلّم في المدرسة يا أبي يقول أننا نقشّر البطيّخ ونقّطعه ثم نضعه مكشوفا في الهواء لفترة طويلة ، فتهبط عليه الحشرات وتنقل اليه الأمراض التي تتسبب في آلام شديدة للإنسان الذي يأكله ، و انّ من يأكله بعد العشاء سيقلق في منامه وسيحلم أحلاما مزعجه  .

        أشار أبي بيده لأمّي من دون أن تؤثّر كلماتي فيه . قامت أمّي لتتناول وعاء البطّيخ . أحسّت بأنّه خفيف واكتشفت سريعا خطيئتنا . نظرت الّيّ وقالت وهي تشفق عليّ من العقاب ، لا بدّ أنّ كلام المعلّم صحيحا ، لذلك لن آكل البطّيخ . وضعت الوعاء سريعا ، حضنتني لتحميني من عقاب أبي الذي عدّل جلسته وابتسم ، ولكنّ باقي أفراد العائلة لم يغفروا لي ولا لأخي  ، لأننا لم نتذكّر مضار البطّيخ الّا بعد أن أكلناه .

قد يعجبك أيضاً

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.