الرئيسية » تحرر الكلام » شَرّفتَ ..!

شَرّفتَ ..!

من أجمل المعاني التي قرأتُها عن الحياة أن أحدنا عند ميلاده يُؤذن في أُذنه اليمنى فحسب، أي إنه أذان لا تتبعه صلاة، وبعد وفاته تُقامُ عليه “صلاة الجنازة” في المسجد دون أذان أو إقامة؛ وكأن الأذان الأول في “لحظة الميلاد” كان إيذانًا بالصلاة الأخيرة عند الموت..!

     شَرَّفتَ ..

   ستقال لأحدنا إن آجلًا أو عاجلًا؛ وحينها لن تكون له سيطرة على الإطلاق على جسده، كما كان في حياته، وحينها سيتلاشى حق الاستقلالية في الحياة، الذي يساوي أن تضرب الأرض بقدمك اعتراضًا على مَنْ يضايقك، أو كأقل صورة من صور الاعتراض التي تعلمناها منذ الصغر، عوضًا عن إغلاق باب الغرفة على نفسك من الداخل ثم الصراخ بكل ما فيها؛ وقد تلاشى الخوف من اقتحامها عليك، لن يصير بوسعك لحظة أن تجود بأنفاسك أن تعترض؛ أو أن تطلب تأجيلًا، أو أن تستجير بصديق أو قريب نافذ له علاقات متشابكة مع السُّلطة أو أطراف القوة ..

    باختصار أنت عشتَ طويلًا .. واستنفذتَ رصيدك من المحاولات؛ فإما كنتَ صفرًا عن يمين الحياة .. أو آخر لكن من الناحية الأخرى؛ وقد آن وقت انسحابك لتفسح الطريق لآخر يولد في هذه اللحظة، برأي الشاعر الراحل “سيد حجاب” في مقدمة “حديث الصباح والمساء”:

ـ “لحظة ميلاد الفرح كان فيه حبيب رايح!”.

    ربما لم يولد “الآخر” الآن بالتحديد، لكنه جاء الحياة، على آية حال .. لكن جاء أوان انسحابك لكي يشغل حيز الوجود الذي تشغله؛ وهو سيفعل بالتبعية والتراكمية معًا .. أمر منطقي سبق وجودك، فقد انسحب من الحياة آخر ليفسح المجال لك، وجاء أوان رحيلك؛ فخذ الأمر بـ”روح رياضية”.

    أما لحظات “جودك بروحك” أو “خروج أنفاسك” فتعتمد على سابق أفعالك في الحياة؛ فإن كنتَ راعيتَ فيها ألَّا تكون ظالمًا تستخدم كل صلاحياتك في الحياة للنهل من أكبر قد ممكن من متعها؛ سواء اكتناز المال؛ فيما الناس من حولك أهلًا أو جيرانًا أو حتى إخوة فضلًا عن زملاء يتضورون ويعانون من الفقر.

  ويزيد من آلامك لحظة الوفاة، قالت دراسة إنها تعادل آلام ثلاثة آلاف ضربة سيف قاطعة للجسد؛ ويزيد من آلامك أنك كنتَ تُنادي بالرحمة واستيعاب الآخرين، فيما لا قدر الله؛ كنتَ عمليا في السر أو الجهر تترجم المعاني براحتك فتسرق ما أمكنك من مجهودات الآخرين لتزيد من مكاسب نفسك؛ وما تسميه تأمينًا لمستقبل أبنائك .. فيما لا يزيد ما تفعل وتبرر عن السطو العلني وإعوجاج التفكير.

   لحظة تراجع الروح عن هذا الوجود لحظة حقيقية كاشفة .. مختلفة عن لحظات الوهم والزيف والدنيا الحلوة الخضرة كما قال معلم البشرية محمد، صلى الله عليه وسلم، في هذه اللحظة تُولي هاربة صنوف الكذب والغش والنفاق التي تتفنن البشرية فيها، فتبدو العورات وإساءات التصرف والخطايا والبلاديا واضحة دون تزييف أو تجميل، فقد تعمد المُتوفى فعلًا جعل غيره يعيش في تعاسة لفترة من الزمن محدودة أو غير محدودة، أما إن كان الراحل من الطغاة المُسرفين على أنفسهم قبل غيرهم، فقد أعاش الملايين في كرب وضنك ومعاناة وسعي بل موت لحظي كل يوم وساعة من أجل “لقمة العيش”، هكذا كانوا يفهمون .. أما هو .. في لحظة الموت فسيفهم الأمر على حقيقته المجردة، فقد كان يفعل من أجل أن يستطيع حكمهم، ومن أجل هذا زج بهم في ويلات الموت والحروب ..

   ومن الطغاة في الأرض ملايين على قمتهم كل موظف أو مسؤول يتعنت مع ضعيف ساقته الأقدار أمامه فلا يقضي له مصلحته متحججًا بالقوانين الفضفاضة التي تحتمل الأوجه والمعاني المختلفة؛ فلكأن أحدهم حينما يفعل يتحمل وزر أنظمة بخطاياها الطويلة العريضة، فإنما يسرق أموال الناس وأرواحهم وفق ما أمكنه من قدرات ولو أمكنه أكثر لفعل أكثر!

   لحظة الوفاة يُعرضُ شريط الحياة ببطء قاتل على أحدنا، فالزمن مكون بالغ النسبية .. يُعرض ملخص الحياة ببطء قاتل في ثوان؛ فنعرف الحقيقة والمصير والمآل .. وما قدمناه في مرحلة فاصلة من حياة الأمة، وما كان بوسعنا فعله فتقاعسنا، أو أصررنا على المصلحة الشخصية على طريقة المثل المصري الوقح:

ـ إن جالك الطوفان حط (ضع) أولادك تحت قدميك..!

   وكم من أناس ساقوا الآخرين إلى المحن متعمدين أو غير مبالين، سواء أكانت نواياهم الخيانة أم مجرد أنهم كانوا أغبياء، وفي النهاية لم يحرص كل منهم على مصلحة الجمع قبل مصلحته، تلك المصلحة العامة التي تجعل ابنه أو ابنته من بعده في حماية الله ثم الخير الذي زرعه في المجتمع، أمثال هؤلاء، وما أكثرهم لا يكتفون ببضع رشفات تحفظ عليهم أقواتهم في الحياة؛ بل يتعمدون سرقة كل ما تصل إليه أيديهم منها، فلا يستحقون الخير فيها، ولا تمتلئ أعينهم من خيراتها، مهما كنزوا، وإن يملؤها التراب والدود في النهاية!

   مَنْ يتذكر منا لحظة الموت عشرين مرة في اليوم .. كما ورد في الأثر؟

   مَنْ يعرف أنه حينما يموت سيتلاشى اسمه لدى الناس .. الذين كان يحرس على مصلحته بينهم ليصير اسمه “الجثة” .. أو على الأكثر “المرحوم” وفيهم مَنْ سيسمونه: “المجحوم”!

    أما الروح فأسمى ما في الوجود .. وحسن إعانتها على فعل الخير هي التي تجعل الملائكة تقول لأحدنا لحظة الموت .. في رقة وصدق، بعيدًا عن عالم البشر:

         ـ شَرَّفتَ..!

قد يعجبك أيضاً

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.