الرئيسية » تحرر الكلام » المناصب لا تُغير الشُرفاء

المناصب لا تُغير الشُرفاء

في العادة أنا أضيق بالأطفال ولا أطيق كُثرتهم وتواجدهم في بيتي وقد أُبدي إنزعاجي منهم بلا خجل فأُسرتي بسيطه وأنا غير معتاد على الضجيج والصوت المرتفع وحين مغادرتهم لمنزلي أردد الشهادتين وأعود لحالتي تدريجياً للإنسجام مع نفسي ومع الهدوء الذي صنعته لعائلتي منذ سنوات طويلة .

قبل أيام وبحكم العلاقات الإجتماعية التي تربطني في الكثير من الناس حضر إلى بيتي أكثر من عائلة وبرفقتها أبنائها الأطفال فأصبح منزلي عبارة عن مسرح للعمليات والمشاجرات والصراخ والعبث بموجودات بيتي ووصل الأمر بهم لأن يعيثوا فساداً بمحتويات غرفتي الخاصة والتعرض لها ولاحظ ذوي الأطفال كثرة تذمري وإنفعالي فقاموا بالصراخ على أبنائهم وحتى بضربهم ولم يؤدي ذلك إلى نتيجة .

هداني التفكير أخيراً للتوجه إلى أكبر الأطفال سِناً وأكثرهم شقاوة وتخريباً وأخذته جانباً وتكلمت معه وعززت به أنه الأكبر والأعقل بهم وأنه لا بد من أن يقوم بضط تصرفاتهم وسوف أقوم بإهدائه شيئاً يُحبه فكان الإتفاق وأخذته من يده وتوجهت به إلى باقي الأطفال لأخبرهم أنه هو المسؤول عنهم ويجب عليهم إطاعته في كل شيء فتغيرت ملامحه فجأة وأصبحت أكثر قسوة من قبل فغابت كل البراءة من وجهه ومعها غابت إبتسامته وحتى خفة دمه المعروفه وتركته معهم لأستغرب من هذا الهدوء الذي حل فجأة على منزلي فتوجهت إليه مرة أخرى فوجدته ولقد قام بقمعهم ولم يسمح لأحدهم بالخروج من الغرفه وقد تلبس لباس المسؤول المتجهم الوجه فأصبح يعاملهم بدكتاتورية متسلطه ومن فرط حزني على الأطفال الباقيين قمت بسحب صلاحياته وعاد كما كان مثلهم فإنفرجت أسارير وجوههم وعادت لترتفع ضحكاتهم من جديد كما كانت أما هو فلقد تركهم وجاء ليجلس معنا نحن فمستواه الإجتماعي الآن لا يليق به أن يجلس إلا مع الكبار .

عرفته قبل عشرين عاماً إنساناً مقبلاً على الحياة طيب المعشر خفيف الروح لا تمل من الجلوس معه للطيبة التي يحملها في قلبه وأخلاق إبن البلد والقرية في داخله , متواضعاً لطيفاً في كل مرة يراني بها يأخذني في الأحضان فنضحك كثيراً وكم من مرة تقاسمنا ديناراً أو خمسة فيما بيننا , صادفته قبل أيام وبعد فترة طويلة من البعد والإنقطاع وكعادتي أخذته في الحضن والدفئ والشوق فكان البرود والصد والكِبر منه فكانت أولى كلماته مازلت كما أنت يا فراس ولم تتغيير , لأرد عليه لا يتغير إلا جائع وعديم أصل فكان لقاءاً مبتوراً باهتاً لا يحمل من الحميمية الكثير علمت من كلماته القليلة معي أنه في منصب رفيع في الدولة الآن أهداني بعدها كرتاً مدوناً به أرقام هواتفه وإسمه والوظيفة التي يشغلها لألقي به في أول حاوية أصادفها وأسقطه من مجموعة أصدقائي البسيطين الرائعين .

في الصفحات الأولى وعلى شاشات التلفازات والمواقع الألكترونيه أناس مكشرين عاقدي الجبين فعندهم هموم لقد جاءوا من لجان ومؤتمرات وسوف يعودون إلى غداء عمل وعشاء عمل مع كثير من القهوه والشاي والسجائر والمكالمات التلفونيه إنهم يديرون كوكب الأرض أعانهم الله على هذا الحمل العظيم والكبير لذلك يجب أن نعذر لهم تجهمهم ونزقهم ولا بد من أن نتحملهم ولسوء حظنا نحن الفقراء والبسطاء والكادحين أن الممسكين بعجلة تقدمنا والتخطيط لنا هم أؤلئك المكشرون فلا بديل عنهم أبداً .

كانت زوجة نابليون بونابرت لاتطلب منه شيئاً إلا إذا كان جالساً ومسترخياً أما إذا وقف أو كان بمكتبه فهي تعلم أن جوابه سلفاً ( لا ) وليس هذا قراره وحده إنما هو أيضاً قرار الكرسي الذي يجلس عليه والمنصب الذي يُشغله أيضاً .

قد يعجبك أيضاً

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.