الرئيسية » تحرر الكلام » الطاعم الكاسي

الطاعم الكاسي

كان الحطيئة شاعر هجاء خبيث اللسان ، لم يترك شخصا تعامل معه إلا وهجاه، هجا زوجته ووالده ووالدته وخاله وعمه، ولا أظن أنك ستتعجب كثيرا بعد ذلك لو قلت لك أنه هجا نفسه.

فقال في والدته :

تَنَحِّي فَاجْلِسِي عَنِّي بَعِيدًا ،،، أَرَاحَ اللَّهُ مِنْك الْعَالَمِينَا

أغربالا إذَا اُسْتُوْدِعَتْ سِرًّا ،،،  وَكَانُونَا عَلَى المتحدثينا

وقال في والده وعمه وخاله :

لـحـاك الله ثــم لـحــاك حـقـا ،،، أبـا ولحــاك مـن عـم وخــال

فنعم الشيخ أنت لدى المخازي ،،، وبئس الشيخ أنت لدى المعالي

وقال في هجاء زوجته :

أطوّف ما أطوّفُ ثم آوي ،،، إلى بيتٍ قَعيدته لَكاعِ

وكان الحطيئة يتعيش من قول الشعر، فكانت الناس تعطيه إتقاء لشره، ولتتجنب بذاءة هجاءه وقدحه، فكان ينزل على الأمير أو سيد القوم فيمدحه بقصيدة من شعره، الذي أشتهر أيضا بجودته، فيعطيه هذا الأمير أو السيد أجر هذا المدح، فإن لم يعطيه ما توقعه أنصرف عنه وهجاه .

وكان الحطيئة قد نزل على سيد قوم يدعى “الزبرقان بن بدر”، وأستضافة هذا الرجل وأكرمه، إلى أن ظهر للحطيئة منه ما كره، فتركه ونزل على خصوم للزبرقان، وهجاه بقصيدة منها بيت يقول فيه:

دع الـمكارم لا تـرحل لـبغيتها ،،، وأقـعد فـأنت الـطاعم الكاسي

فلما سمع الزبرقان هذا البيت، غضب غضبا شديدا، وشعر أن شرفه قد أهين، فذهب من فوره يشكو الحطيئة عند أمير المؤمنين.

أتدرون من أمير المؤمنين الذي حدثت هذة القصة في عهده، إنه “عمر الفاروق”، سمع أمير المومنين الأبيات بعدما سمع شكاية الزبرقان، التي قال فيها إن الحطيئة قد هجاني وشهر بي، وسأله ماذا في الأبيات لقد وصفك بالطاعم الكاسي، ولا أرى في الأبيات إلا عتابا، فرد عليه الزبرقان قائلا: لا والله يا أمير المؤمنين لقد هجاني، أو ما تبلغ من مرؤتي إلا أن أكل وألبس .

وإزاء هذا التصميم من جانب الزبرقان، أنتدب أمير المؤمنين عمر خبيران للفصل في هذة المسألة الفنية، ولم يكونا إلا الصحابي الشاعر حسان بن ثابت، والصحابي الشاعر لبيد بن ربيعة، اللذان أكدا على أن الأبيات هجاءا صريحا، فقال الأول : إن الحطيئة لم يهجه ولكنه سلح عليه، وقال الثاني : ما يسرني أنه لحقني من هذا الشعر ما لحقه وأن لي حمر النعم، فأمر عمر بحبس الحطيئة في قصة طويلة.

وأكثر ما لفت نظري في هذة القصة الطريفة، هو استنكار الزبرقان لصفات لو قيلت لأي شخص من أهل زماننا لطار بها فرحا، فيكفي أن تقول عن شخص: إن فلان هذا في حاله، ولا هم له إلا إعاله أهله، وكافي خيره شره، ولكن هذا الرجل العربي الشهم أستنكف أن يكون هذا هو فقط همه في الحياة، فاين هو من هموم أمته، والأخطار المحيطه بها من كل جانب، من يدفعها إن صار كل همه في الحياة هو توفير الطعام والكساء، لذلك فإنني لا أعجب كثيرا من أن هذا الجيل هو الذي فتح العالم.

أنا لا أقلل أبدا من إهتمامك بإعاله نفسك وأهلك فهذا فرض عليك، وإجتهادك في السعي عليه شئ رائع، ولكني أربأ بك أن يكون هذا هو مبلغ عزمك ونهاية همتك، يجب علينا ونحن في دوامة التكسب من أجل أكل العيش، ألا نغفل عن هموم أمتنا ولو للحظة، فلو لم تكن تستطيع التغيير، فما عليك إلا بلاغ الحق لمن تعرف،وإحسان التربية لمن تعول.

وإياك وأنت تعول أهلك، أن تضيعهم بعدم التوعية والتربية على حمل هموم الأمة، فكفى بالمرء إثما أن يضيع من يعول، ولا تسمح لأي أحد أن يقعدك عن المكارم، ولا أريدك بأن تفاخر فقط بأنك الطاعم الكاسي.

قد يعجبك أيضاً

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.