الرئيسية » الهدهد » تفاصيل تكشف لأول مرة.. صحفي عراقي يكشف كواليس آخر مقابلة أجراها مع القذافي

تفاصيل تكشف لأول مرة.. صحفي عراقي يكشف كواليس آخر مقابلة أجراها مع القذافي

في الذكرى الخامسة لرحيله، كشف سلام مسافر الصحفي العراقي الذي أجرى آخر مقابلة مع الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي كواليس المقابلة الصحفية التي أجراها معه.

 

وفي مقال للصحفي العراقي سلام مسافر، على موقع “روسيا اليوم”، كشف الأخير كواليس المقابلة التي جرت “في الخيمة”، قبل أيام من التدخل العسكري للناتو في ليبيا، في آذار/ مارس 2011، والتي ساهمت في مقتل القذافي أخيرا.

 

وقال مسافر إن “اللقاء جرى في الخيمة التي رأيت فيها، وفي أثاثها المغبر، نموذجا صارخا لنظام الحكم البدوي القائم على فكرة أن الشعب قطيع، والسلطة هبة من السماء لمن اختاره الرب راعيا لقطيع، إذا تمرد بعض خرافه، فإن عملية تأديبية صغيرة تكفي لإعادتهم إلى الطريق المستقيم”، بحسب قوله.

 

ورغم ما يبدو انتقادا لمسافر لـ”حكم القذافي البدوي”، في مقاله على “روسيا اليوم”، ظهرت حفاوته البالغة باستقبال القذافي له ولطاقم “روسيا اليوم” أثناء المقابلة، واصفا إياه بـ”القائد النادر”، معبرا عن “سروره باستقبال الطاقم، وأنه قد خصه بهذه المقابلة”.

 

وفيما يلي تفاصيل المقابلة، بحسب مقالة مسافر:

 

البداية

وصلنا وفريق التصوير إلى طرابلس برا من تونس التي تكدس على حدودها مع ليبيا في مركز “أبو جدير” عشرات الألوف من الأجانب النازحين، الهاربين من مدن العقيد، بعد اندلاع ما بات يعرف في الأدبيات السياسية الدولية بالثورة الليبية، وظل العقيد المثقل بالزي البدوي الليبي، يصفه بالتمرد المسلح؛ لأن “ثوار” بنغازي سرعان ما استولوا على ثكنات الجيش ومخازن الأسلحة وبدأت معركة طويلة لإسقاط النظام، وتحقق السقوط بفضل تدخل الناتو.

 

قدمنا طلبا للقاء العقيد، وكتبت صفحة كاملة عن سيرتي الذاتية، وفيها مسقط الرأس والتحصيل الدراسي من جامعة بغداد وجامعة موسكو، واسم العائلة، واللقب، وهو أمر لم اعتده في حياتي، لكن ذلك تم بناء على طلب مسؤولي الإعلام الخارجي الليبي، الذين كانوا كل ثلاثة أيام يؤكدون لنا أن اللقاء قريب، وفي اليوم الرابع يطلبون معتذرين كتابة طلب جديد مع السيرة الذاتية، قائلين: “معلش، الوضع مش باهي في البلد، والأوراق ضاعت!!”.

 

وهكذا بلغ عدد الطلبات رقما لا أتذكره، لكن صبرنا نفد، فاتصلت بالناطق الرسمي المتحدث بإنكليزية نادرة وسط متعلمي ليبيا، بعد سنوات من انقطاع عن تعلم اللغات الأجنبية، السيد موسى إبراهيم.

 

الشاب الدمث أكد لنا أن اللقاء سيتحقق، وحين سألته: هل يحتاج العقيد إلى الأسئلة مسبقا؟ رد قائلا: ليس بالضرورة، مضيفا: “لكن المحاور على الأقل…”. وثانية كتبت رسالة جديدة مع السيرة الذاتية. وقبل أن أسلمها قلت لموسى بين الجد والهزل: “هذا آخر إنذار، فقد عيل صبرنا”. رد موسى أن اللقاء سيتم “فجأة”.

 

وبعد أقل من ساعة على اتصالي بإدارة القناة في موسكو، لتدبير أمر عودتنا؛ لأننا لم نعد نطيق الانتظار والبقاء أكثر من شهر في طرابلس، جاء ممثل الإعلام الخارجي مهرولا، وقال: تحضّروا… بعد قليل سنتوجه إلى باب العزيزية.

 

سيارة الجيب التي أقلتنا إلى “عرين القائد” دخلت منطقة خربة فيها آثار هدم قديم وقصف لم تبق من ضرباته غير جدران متهاوية وحجارة متناثرة، وأكوام من القمامة الحديثة تراكمت مع بقايا القصف الأمريكي عام 1989 على باب العزيزية مقر القذافي، الذي أمر بعدم رفع الأنقاض والإبقاء على “الصورة حية ” تشهد على وحشية اليانكي”.

 

المعشوقة كوندي

 

بعد أقل من عقدين على الهجوم الوحشي، استقبل العقيد في خيمته وسط العزيزية سمراء الدبلوماسية اليانكية، كونداليزا رايس، ودبج أبيات شعر يتغزل بجمالها. وفي الخيمة ذاتها، استقبل القذافي النصاب الدولي توني بلير، وعامله باحتقار، مدركا أن توني السمسار جاء ممثلا لشركات بريطانية وعالمية؛ طمعا في عقود مع ليبيا بعد أن سلم العقيد ملف بلاده النووي، ودفع تعويضات تزيد على ملياري دولار لضحايا تفجير لوكربي، ورفعت عواصم الغرب وواشنطن اسم ليبيا من لائحة الإرهاب، وتقاطروا عليه يلثمون يدية كما بيرلسكوني الذي اعتذر باسم إيطاليا عن مجازر بلاده في ليبيا مطلع القرن الماضي، وطبع قبلة ممزوجة بلعاب مخمور على يد القذافي وسط الخيمة.

 

ركام العزيزية ينتهي بمبنى كالح اللون، صالة استقبال الضيوف مع أثاث لا ينم عن ترف، وألوان اختلط فيها الأحمر الفاقع مع الأخضر القاتم، وموظفين بزي رث وساعة معلقة في نهاية الصالة متوقفة العقارب.

 

في الخيمة

 

لم يمض وقت طويل حتى أبلغونا بالانتقال إلى الخيمة. وبدى الارتباك واضحا على أحد مصوري الفريق. سألته بالروسية: “لماذا أنت مرتبك؟. “قال محرجا: “حتما سنخضع للتفتيش، وجيوبي مليئة بقطع حلوى وتمر، لأني تركت التدخين، وأحتاج إلى ما يعوض عنه “. وبدأ بإخراج قطع الحلوى؛ للتخلص منها قبل أن نصل إلى الخيمة.

 

لم نخضع إلا لتفتيش بسيط. تأكدوا من الكاميرات فقط. واحتفظنا بالهواتف النقالة. أمر أثار دهشتي، وأدخل البهجة في نفس المصور ديمتري كريفكو، الذي لم يفلح في التخلص إلا من ربع “الاحتياطي الاستراتيجي” من حلواه!

 

وقفنا عند بوابة الخيمة. الحراس ينتظرون معنا، لا يحملون سلاحا ظاهرا.

 

وفجأة، بدأوا برفع المقاعد الخشبية المغلفة بقماش فاقع الحمرة من الخيمة، وأحضروا بدلا منها كرسيين أبيضين من البلاستيك. لاحظت أن الكرسي الذي قالوا إنه مخصص لي في مواجهة العقيد مغبرا، فطلبت من مساعد المصور أن يمسحه، فالتفت أحد الحراس إلى الحركة، وسارع بمسح كرسي العقيد المغبر أيضا.

 

وصل العقيد، صافحنا بحرارة، ومعه مترجم. وقبل أن يدخل الخيمة سألني المترجم الذي سمعني أتحدث العربية: هل تحتاج إلى ترجمة إنكليزية. قلت مستغربا: “لا”. ولكن بعد انتهاء المقابلة، اتسعت دهشتي حين قال لي العقيد بلهجته الصعبة: “أنت تتحدث العربية بطلاقة “. أجبته: “طبعا فأنا عربي ابن عربي، ومن أم عربية”.

 

هنا اكتشفت أن “إدارة الرئيس” لم تبلغ العقيد حتى بأسماء الفريق، ولا بسيرتي الذاتية. وأيقنت أن العقيد فعلا لا يحكم ولا يدير، وأن ليبيا دولة بلا مؤسسات. دولة الخيمة.

 

أوهام العقيد

 

في الخيمة، دارت الكاميرات، وعلى مدى نصف ساعة، أجاب العقيد عن أسئلة لم يطلبها مسبقا. وكشف عن أنه “واثق من النصر”، ومتأكد من “عودة المغرر بهم إلى بيت الطاعة”، وأن “الغرب سيندم على الحملة العسكرية لحلف الناتو”.

 

وقال: “ها هم الآن يبعثون لي برسائل غير مباشرة، يريدون مني أن أصفح عنهم، وأن تعود المياه إلى مجاريها”.

 

العقيد لا يؤمن بنظرية المؤامرة. وكان يرى أن من انشق عن نظامه وقع ضحية التضليل الإعلامي “حقهم .. إذ إن القنوات تبث صورا كاذبة تزعم أنني أقصف الأحياء السكنية بالطائرات”، ونفى أن يكون قتل أحدا “ظلما”، وتوقع “نهاية قريبة للحصار الجوي”.

 

وبإصرار أعمى، أكد أن نموذج “الجماهيرية” سيعم كل دول المنطقة، وحمل على الجامعة العربية: “الحمد لله أنها انتهت” . وقال إنه سيكافئ روسيا والصين والهند على مواقفهم في مجلس الأمن: “أبواب ليبيا مفتوحة أمامهم”

 

12 مليار دولار روسية

 

قبل يوم واحد من المقابلة معنا، كان الكرملين أقال سفيره فلاديمير تشاموف في طرابلس؛ لأنه التقى العقيد لمدة ساعتين دون إذن من الرئيس دميتري مدفيديف، الذي اتهم القذافي في تصريحات صحفية بأنه يعرض شعبه إلى القتل. وقبلها كانت روسيا امتنعت عن التصويت في مجلس الأمن على قرار فرض الحظر الجوي، وبذلك أجازت القرار، مع محاولة للاحتفاظ بماء الوجه مع أكبر شريك اقتصادي لروسيا في أفريقيا.

 

السفير تشاموف، مستعرب، يتقن الفرنسية والإنكليزية، أبلغني بألم: “تصور، لقد شطب الكرملين على 12 مليار يورو عقود مع ليبيا، حين لم يستخدم حق الفيتو في مجلس الأمن”.

 

وقال: “سيدمر حلف الناتو ليبيا. ويقتل العقيد، الذي لن يغادر البلاد، وسيبقى يقاتل إلى النهاية، أما روسيا فستخسر كل شيء”.

 

السفير المقال، اعتكف بعد عودته إلى موسكو إلى أن أعيد إلى الخارجية. وكان رئيس الوزراء آنذاك فلاديمير بوتين وصف قرار فرض الحظر على ليبيا القذافي “حربا صليبية جديدة”.

 

فلاديمير بوتين، الذي عاد للكرملين رئيسا في انتخابات العام التالي، تدخل لصالح السفير الموهوب تشاموف، فأعيد إلى الخدمة في وزارة الخارجية. ولكن بعد أن أكمل حلف شمال الأطلسي مهمة “حماية المدنيين” في ليبيا، وأحرق الأخضر واليابس.

 

لماذا أخروا أجله؟

 

حين كنا في الخيمة، فكرت أن تصفية العقيد على يد “خبراء” الناتو، وقنابله الذكية، أمر ليس معقدا، في ضوء التسيب الذي شهدناه في باب العزيزية، بدءا من إجراءات التفتيش البسيطة، إلى الفضاء المفتوح، ومدافع “جراد” هكذا يلفظ الليبيون، منظومة الدفاع الجوي سوفياتية الصنع من الجيل القديم “غراد”، المنتشرة بوضوح حول المباني في باب العزيزية، والتي لا تسقط “جرادة” بله صواريخ توماهوك.

 

وبعد خمسة شهور تقريبا من الحرب على ليبيا، إلى أن قتل القذافي، يتضح أن شركات حلف الناتو كانت تسعى لإطالة حياة العقيد، لتدمير أكبر قدر من البنى التحتية في ليبيا، فالأزمة المالية والاقتصادية في منطقتي الدولار واليورو بحاجة إلى مزيد من عقود إعادة الإعمار. وتذكروا العراق؟؟

 

“The Game Over”

 

لقد كان بوسعهم القضاء على شيخ القبيلة بضربة قاضية تنهي الحرب، وتوقف الدمار، وتحقن دماء آلاف الليبيين قضوا في معارك امتدت لشهور. لم يكن في مصلحة الناتو رؤية العقيد ميتا في وقت مبكر إلى أن وصلت شقراء الدبلوماسية الأمريكية هيلاري كلينتون قبل مصرعه بيومين لتأمر بإنهاء اللعبة.

 

وفي أواخر آب/ أغسطس من العام ذاته، زارت شخصية مثيرة للجدل، سبق أن التقت صدام حسين عشية الغزو الأمريكي عام 2003، ولعب مع القذافي شوط شطرنج فاز فيها معمر القذافي على كيرسان ايليومجينوف رئيس جمهورية كالميكيا، إحدى جمهوريات روسيا الاتحادية، ذات الأغلبية البوذية. ويرأس الآن الاتحاد الدولي للشطرنج.

 

حينها كنت في مهمة صحافية بواشنطن، التقيت خلالها طيفا واسعا من خبراء معاهد الأبحاث الأمريكية، عربا وأمريكان، وتوصلت إلى استنتاج أن البيت الأبيض يستخدم الأوربيين قفازا لالتقاط الكستناء من حريق ليبيا، وأن النهاية سيحددها باراك حسين أوباما، الذي يحلو للقذافي أن يخاطبه “ولدنا مبروك حسين”، على أنه ابن إفريقيا المسلم.

 

لكن أوباما كان يقرع كؤوس البيرة المثلجة في مطبخ البيت الأبيض، ساخرا من سذاجة العقيد، ولم يلتفت أو يكترث ولو لمرة للرسائل المفتوحة والأخرى بواسطة مبعوثين كان العقيد يبثها وجدا إلى ولده “مبروك حسين”، طالبا منه وقف الحرب على ليبيا.

 

ولمعرفتي السابقة بحركات ايليومجينوف في العراق، ومع صدام حسين الذي أغرقه بكوبونات النفط مقابل أكاذيب بالتدخل لرفع الحصار. فقد نشرت مقالا عنوانه “اللعبة بدأت!”. أشرت فيه إلى أن زيارة رئيس كالميكيا السابق إلى القذافي في مخبئه ستعجل في بداية النهاية.

 

لم يمض وقت طويل حتى عجل المشعوذ البوذي بنهاية من تغلب عليه في شوط الشطرنج.

 

من المستبعد أن يكون القذافي لاعب شطرنج بمهارة كيرسان، بل ليس مؤكدا فيما إذا كان معمر يعرف قواعد اللعبة التي تحتاج إلى عقل مدني. بيد أنه كان يجب أن يظهر كيرسان خسارته أمام معمر على شاشات التلفزيون. أما خلف الكاميرات، وفي الكواليس، فقد حصل رئيس كالميكيا السابق على مراده؛ كيف يفكر القذافي، وكيف يعيش. معلومات لا شك أن جهة ما تريد الحصول عليها؛ لأن الأقمار الصناعية قد تتمكن من رصد تحركات العقيد المكشوفة، إلا أنها لن تستطيع التعرف على خيالاته.

 

وكتبت حينها: “ربما تكون زيارة ايليومجينوف إلى طرابلس بداية نهاية اللعبة بالعودة إلى مصير صدام حسين”.

 

غربان مدن الملح

 

قتلت فئة من الليبيين القذافي، وسحلوه، ومثلوا بجثته، ورقصوا حولها أياما ثلاثة. ولم يرتعب الأطفال الفرحون بنصر آبائهم من الدم المتيبس على جسد ووجه العقيد المتخشب.

 

كنت قبل بضع سنوات صورت مشهد غراب يدفن غرابا ميتا في صقيع موسكو. أخرجت الفيلم من الأرشيف. كان الغراب الدفان ينق، ويطرد عصافير كانت تتجمع حول الغراب الميت متطفلة. لم يصرخ الغراب “الله أكبر”، بل دفن “ابن ريشه” وسط صمت غابة يقطعها نعيق ونقيق وزقزقة طيور وحيوات تبحث عن طعام ومأوى من البرد.

 

في الساعة السادسة من فجر الرابع عشر من تموز عام 1958، سقطت العائلة المالكة في العراق مضرجة برصاص جنود قرويين أمرهم ضابط أرعن بإطلاق النار على نساء وشاب أعزل مع خاله وخدم صغار وطباخ تركي.

 

الضابط الأرعن مات منتحرا بعد سنوات من مكابدة مرض الكآبة. والجنود القرويون نهبوا محتويات القصر الملكي البسيط، وتكاثروا مخلفين أجيالا من الدهماء والرعاع وصلت إلى سدة الحكم، وتتربع على عرش العراق المعفر بالكراهية والقمع والوحشية والقهر واللصوصية. ومنذ تلك الساعة إلى اليوم لم تتوقف دورة الدم والانتقام في العراق.

 

حين أخبرت القذافي المندهش من عربيتي الطليقة، متوهما أنني روسي، أخبرته بأني عراقي، نزع نظارته السوداء، وكأنه أراد أن يرى وجهي بوضوح أشد. وقال بما يشبه الهمس: “نعم نعم بغداد، أعرفها أعرفها!!”.

 

مات القذافي، لكن دولة الخيمة ستعيش طويلا في ليبيا المحتفية بثوار يصرخون “الله اكبر” حول جثمان منكمش، وبيدهم رشاشات أي بي أم الأمريكية الفتاكة.

قد يعجبك أيضاً

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.