الرئيسية » تحرر الكلام » الدرس الأخلاقي الأخير لداود أوغلو

الدرس الأخلاقي الأخير لداود أوغلو

كُتب في موضوع استقالة رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو، الكثير، وتم تناول هذا الحدث من قبل الكتاب والمحللين السياسيين الذين أثروا الموضوع بكم كبير من التفصيل والتحليل، لذلك أجد نفسي أكرر ما كتبه غيري لو تناولت هذا الحدث من نفس الزاوية.

لكن لو نظرنا إلى هذا الحدث من زاوية أخرى لوجدنا معاني أخرى ربما فاتت على بعض الكتاب والمحللين تسليط الضوء عليها، أو بمعنى أكثر دقة، إنهم مرو عليه سريعاً، ربما لانعدام الفضاء الحر لكثير من الكتاب، مما يكون حالاً بينهم وبين أن يكتبوا ما يريدون حقاُ أن يكتبوا فيه، أو إنَّ بعض الكتاب أعطى أهمية قصوى لتداعيات هذا الحدث سياسياً دون النظر إليه من زوايا أخرى، على اعتبار إن لا وزن لها سياسياً.

لذلك قررت أن أكتب ما يجول بخواطر المواطن العربي وهو يراقب حدث الاستقالة وانطباعاته عليه. أول ما سمعت خبر الاستقالة وبدأت أقرأ ما يكتب حولها وأسبابها، جاء إلى خاطري مباشرةً النموذج الوحيد الذي رأيناه بعالمنا العربي المشابه لاستقالة داود أوغلو، نموذج المشير “سوار الذهب” في السودان. ذلك الرجل الذي قاد انقلابا على أحد طواغيت الشرق الأوسط آنذاك “جعفر نميري”، مستجيباً لمطالب الشعب الذي قام بانتفاضة على حكم النميري في وقتها، فما كان من سوار الذهب إلا أن خلع النميري وسلم الحكم بكل تواضع وأريحيه للسياسيين المدنيين، بعد فترة انتقالية قدرها سنة واحدة فقط، لتقام بعدها عملية سياسية ديمقراطية سليمة، وتفرغ سوار الذهب بعدها للعمل الدعوي.

حفظت ذاكرة السودانيين وذاكرة العرب هذا النموذج الرائع لرجل عسكري قام بواجبه أتجاه شعبه وأصبح مضرب مثل عندما يتم ذكر طواغيت العرب. الذين شاخوا وهرموا وهم قابعين على كراسي الحكم لا يريدون أن يتخلوا عنها إلا إذا انتزعهم الموت عنوةً عن كراسيهم.

تخلى داود أوغلوا عن رئاسة الوزراء، ومعظم مراقبي الشأن السياسي التركي وصفوا قراره، بأنه جاء بعد خلافات مع رفيق دربه أوردغان، لكننا لم نشهد منه كلمة واحدة تسئ لأوردغان، بل مدحه ووصفه بالرفيق، وبمعنى أخر يقول لنا: إن الاختلاف في وجهات النظر لا يفسد المحبة بينهم، أو يحرفهم عن بوصلتهم نحو الهدف الذي رسماه. فكلاهما كانا يريدان الوصول إلى عين الهدف وهما في بداية الطريق، ولكن اختلفت سبل الوصل إليه بينهما في مسائل فرعية، وهو آمر طبيعي يحدث بين كل البشر، ولكن الذي قام به داود أوغلوا، هو الغير طبيعي (من وجه نظرنا نحن العرب) ذلك لأننا في بلادنا لا يتم انتقال السلطة فيها إلى بعد أن تجري خلالها أنهاراً من الدماء.

كان داود أوغلوا أشد ما يشبه قائدنا الإسلامي العظيم خالد بن الوليد (رضي الله عنه) حين عزله عمر بن الخطاب، في الوقت الذي كان فيه خالد (رضي الله عنه) في قمة مجده وعز انتصاراته العسكرية، لكن خالد كان يشعر بنفسه إنه جندي بجيش إسلامي لا يسعه إلا أن يمتثل لأمر قائده، وغايته رضا الله لا المناصب والجاه والرفعة في الأرض.

أما أخوتنا في العراق، فانهم استقبلوا خبر الاستقالة وقلوبهم تمتلئ مرارة، ولسان حالهم يقول: أنَّ لدينا رئيس وزراء، حكم لولايتين انتخابيتين، ضيع خلالها ثلث العراق، وأهدر أموال بالمليارات، وما زال يطمع بولاية ثالثة، ليكمل على ما تبقى منه. لا أريد أن أذكر أسمه فوالله لأشعر بأن قلمي يترفع عن ذكر أسمه خشية أن يتلوث مما في هذا النكرة من النت والسوء، واسمه معروف، لأن رائحته النتنة تفوح على بعد أميال لتعرف الآخرين به.

إنَّ حادثة استقالة داود أوغلوا تبين ما في هذا الرجل من معدن أصيل، ففي الوقت الذي أدار وزارة الخارجية لعدد من السنين وحقق إنجازات قل من يستطيع تحقيقها، فقد قاد تركيا خلال الفترة القصيرة التي قضاها برئاسة الوزراء بنفس الكفاءة وبهذا الضرف العصيب الذي تمر به تركيا، تدلل على عقليته الفذة في إدارة الصراعات التي تجتاح تركيا داخلياً وخارجياً، وراهن الكثير من المغرضين على فشله في تلك المهمة.

ومن جهة أخرى فإن شخصية داود أوغلو تدلل أيضاً على عقلية وفرط ذكاء الرئيس الحالي رجب طيب أوردغان، فهو الذي جلب داود أوغلو من أروقة الجامعات وزجه في خضم السياسة، ذلك لنظرته الثاقبة بالرجال ومعرفته لمعادنهم الأصيلة وإخلاصهم لوطنهم.

إن تصرف داود أوغلوا في استقالته تلك، تنطبق عليه مواصفات المسلم المؤمن الحق، التي وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال (طوبى لعبد أخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة) وهذا ما فعله داود أوغلوا، فقد ترك قصر رئاسة الوزراء ليذهب إلى مدينته ومسقط رأسه ويستقبله أهله بدموع الفرح والامتنان، ولسان حاله يقول: إنه باقي على العهد ومخلصٌ لمبادئي، لا يحيدني عنها منصب أو جاه.

إما رؤسائنا في العالم العربي، فأن من يحالفه الحظ ويبقى على قيد الحياة، بعد الانقلاب عليه، وخلعه من كرسي الحكم بالقوة، فإنهم يُستقبلون برميهم بالأحذية، أو يبقون ملعونون من شعوبهم جيل بعد جيل.

داود احمد أوغلوا، يكفيك فخراً أنك أعطيت العالم مثلاً بالرقي الأخلاقي، وأعطيتنا درساً بالأخلاق السياسية، ويكفيك فخراً إنك لم تنسى أخوتك رفاق دربك، وأنت تصل إلى أعلى مراتب السلطة، يكفيك فخراً إنك تركت السلطة طوعاً وليس كرهاً في بلدٍ كان مشهوراً بالانقلابات العسكرية، يكفيك فخراً أن يودعك الرئيس التركي أوردغان (باني تركيا الحديثة) وهو عنك راضي ويشعر بالامتنان لأدائك السياسي.

يا قادة تركيا لقد جعلتوا قلوبنا والله تمتلئ حسرة، كوننا لم نرزق بمثلكم في بلداننا، ولا حتى نصف ما تمتلكون من العفة والنزاهة والزهد بالحكم والجاه. سيروا وعين الله ترعاكم وقلوب العباد تدعوا لكم.

قد يعجبك أيضاً

3 رأي حول “الدرس الأخلاقي الأخير لداود أوغلو”

  1. اين الثرا من الثريا
    داود اوغلو رجل تربى على حب الوطن والدين والقيم العليا والإخلاص للقضية على عكس حكام العرب الذين همهم الوحيد التمتع بالكرسي وزاد عليهم صاحب الولاية الثالثة بحب الفرهود وبث الحقد والسموم الطائفية واتباع الخرافات

    رد
  2. عاشت ايدك أستاذ كما عودتنا بالتفاتاتك الرائعة
    فعلا يا حسرة لو كان لنا قادة مثل الأتراك

    رد

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.