الرئيسية » تحرر الكلام » الجيوش الوطنية والثورات العربية ـ دراسة منهجية تجريبية موثقة

الجيوش الوطنية والثورات العربية ـ دراسة منهجية تجريبية موثقة

(17)

اقتصاد الجيش المصري اقتصاد مواز لاقتصاد الدولة

لقد كللت مساعي الجيش بنتيجة اقتصادية باهرة هي تأسيس وتطوير اقتصاد ضخم يرتكز على قاعدة اقتصادية متنوعة ، وانتهي النجاح بهذا الاقتصاد إلى أن يتحول إلى اقتصاد مواز لاقتصاد الدولة المصرية أكثر انضباطاً وتفوقاً وتقدماً ونمواً ، ويمكن تفصيل ذلك من خلال ما يلي : 

الفرع الأول : عناصر اقتصاد الجيش الموازي :

إن كافة المشاريع التي أسسها الجيش المصري ثم أدارها وطورها وحققت نجاحاً مشهوداً تتسم بالخصوصية في كافة عناصرها ، ومن شأن هذه الخصوصية أن تزيد من فرص نجاح تلك المشاريع بل وتجعلها أكيدة النجاح ، وتوضيح ذلك فيما يلي :

البند الأول :التمويل : تتعدد مصادر تمويل مشاريع الجيش ، ويمكن تحديد أهم تلك المصادر في الآتي :

أ :رأس المال الميري : تعتمد كافة مشاريع الجيش المصري في كافة قطاعات الدولة وفي كافة قطاعات الاقتصاد من زراعة وصناعة وتجارة وثروة حيوانية ومنتجات غذائية وثروة معدنية في رأس مالها على ما يعرف في مصر برأس المال الميري أي مخصصات ميزانية القوات المسلحة في الموازنة العامة للدولة ، وهذه الأموال تستقطع من تلك الميزانية ومن ثم فهي ملك للجيش وليست لأفراد أو لمؤسسات خاصة ، ولا وجود للمخاطرة على الإطلاق ، ما يرفع من سقف الثقة لدى تلك المشاريع .

ب :قد يستعين الجيش ببعض المؤسسات المالية لتقديم تسهيلات خاصة بالمشاريع التي يديرها ، وليس لدينا ما يؤكد على أن الجيش يقترض من البنوك لتمويل مشاريعه لأنه منطقياً ليس في حاجة إلى أموال القروض .

ت : المعونات والمساعدات ، يتلقى الجيش معونات من أهم جهتين في العالم وهما الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ، ومن الصعب استخدام تلك المعونات ذات الطبيعة العينية في تمويل مشاريع الجيش إلا في حدود معينة .

ث :عوائد رأس المال ، تستخدم عوائد رؤوس الأموال في تمويل المشاريع الجديدة وتوسعة المشاريع العاملة ، ولو أنه من الصعب الوقوف على حقيقة قيمة هذه العوائد وإلى أين تتجه ، وذلك بسبب السرية المطلقة التي تفرض على كل المعلومات الخاصة بالجيش ومشروعاته .

البند الثاني :التنظيم والإدارة : تتولى قيادات الجيش إدارة المشاريع الخاصة به ، وقد لا يجد الجيش صعوبة في توفير الكوادر اللازمة للإدارة ومستشاريهم ، ولا يُتوقع أن الجيش قد يسمح بالاستعانة بكوادر مدنية في إدارة مشاريعه إلا في أضيق الحدود وفي التخصصات النادرة .

والمقصود بالتنظيم والإدارة في مشاريع الجيش رؤساء مجالس إدارة المشاريع والشركات ، ورؤساء القطاعات ، والمدراء العامون ، وبعض العناصر نادرة التخصص من الإدارة الوسطى أو التنفيذيين ، وهذه الفئة تتسم بصفة الدوام في الجيش ، وليس من ضمنهم ضباط الاحتياط ، ويندرج ضمن هذه الفئة من تستعين بهم هذه المشاريع من الخبراء والمستشارين الأجانب وهم قلة ويستقدمون بسرية مطلقة.   

البند الثالث :القوى العاملة : لا يجد الجيش صعوبة في توفير عنصر العمل لمشاريعه ، فأفراد الجيش من كافة التخصصات يمكنها أن تتولي تشغيل مشاريعه دون مقابل أو بأجور رمزية يتقاضونها أثناء تأدية الخدمة الوطنية .

البند الرابع : التسويق والتوزيع :توزيع وتسويق منتجاتمشاريع الجيشفي داخل البلاد لا تجد صعوبة ، لأنها منتجات منافسة ، تعويلاً على رخص وتوفر عناصر الإنتاج مقارنة بالمنتجات المنافسة ، وقد تتميز بعض المنتجات حال تصديرها لانخفاض سعرها وجودتها النسبية .

بعد استعراض عناصر مشاريع الجيش نخلص إلى تفوق تلك العناصر التي تبدو نموذجية لنجاح تلك المشاريع .

الفرع الثاني : مردودات اقتصاد الجيش :

تستقر مردودات أو أرباح مشاريع الجيش في مصر التي لا تخسر أبداً بعد حساب رأس المال التشغيلي في ثلاثة مستودعات ، الأول جزء خاص من رأس المال التشغيلي ، والثاني يتم تدويره في توسعة المشاريع العاملة أو في مشاريع جديدة ، والثالث يتم إيداعه في خزينة الجيش . 

البند الأول : المكافآت المجزية لعنصر التنظيم والإدارة : تتلقى قيادات الجيش التي تتولى إدارة وتشغيل مشاريعه لقاء عملها مكافآت مجزية ، لا يعلم أحد معايير تقييمها ولا قيمتها بشكل منهجي متسق ، ولكن عبر معلومات تستقى من تلك القيادات بشكل شخصي ، ولذا فهي تختلف من مشروع لآخر ، ومن شركة لأخرى ، ويتم التعامل مع هذه المكافآت التي يمكن أن توصف بالضخمة على أنها جزء من رأس المال التشغيلي ، ولعلها الأكبر في قيمتها بعد عنصر المواد الأولية أو الخام .

البند الثاني : توسيع المشاريع العاملة وإنشاء مشاريع جديدة :يتّبع الجيش سياسة اقتصادية فعّالة ، حيث يعمد إلى توسيع المشاريع التي تدر ربحاً كبيراً وتتسم بالثقة وقلة أو انعدام المخاطرة ، ولا ينتقل إلى مشاريع جديدة إلا بحذر شديد ودراسات جدوى تؤكد انعدام المخاطرة وارتفاع سقف الثقة والتمكن من أسواق مضمونة للتوزيع .

البند الثالث : خزينة الجيش : ما يفيض بعد استيفاء البندين السابقي يستقر في خزينة الجيش ، وهي صندوق شديد الخصوصية ومطلق السرية ، ولا يعلم حقيقة محتواه إلا وزير الدفاع وبعض أعضاء المجلس العسكري المختصين بالنواحي المالية .

الفرع الثالث : مثالب اقتصاد الجيش الموازي لاقتصاد الدولة :

الاقتصاد شأنواختصاص سيادي تتصرف فيه الدولة كشخصية اعتبارية بما تراه في مصلحة مجتمعها وشعبها ، ولا ترحب أية دولة في العالم ، بل ولا تسمح بوجود اقتصاد مواز بداخلها ، إذ أن ذلك الاقتصاد الموازي سيربك ويرهق اقتصاد الدولة ، ولكن الحالة المصرية من الحالات الشاذة ، حيث وجدت الدولة الشمولية العسكرية المتوارثة نفسها في مواجه اقتصاد مواز لاقتصادها وهو اقتصاد الجيش ، وهو مفروض عليها بفعل نفوذ المؤسسة العسكرية وسطوتها وتواطؤ النظام السياسي .

وقد تجلت منذ النصف الأخير من تسعينيات القرن العشرين التداعيات والآثار السالبة لاقتصاد الجيش على اقتصاد الدولة المصرية ، وازدادت حدة وسالبية تلك التداعيات مع النصف الثاني من العقد الأول من القرن الواحد والعشرين ، وهي الفترة التي بدت فيها سوءات الاقتصاد المصري وعلله المزمنة ، وانعدام قدرته على الصمود أمام تلك العلل التي تستشري في جسده دون معالجات حقيقية منذ أكثر من نصف قرن .

وتعددت مثالب قيام وازدهار اقتصاد الجيش كاقتصاد مواز لاقتصاد الدولة المصرية في مفارقة جديرة بالتأمل ، وهي أن ازدهار اقتصاد الجيش وتقدمه كان يقابله اضمحلال في اقتصاد الدولة وتعثره ، وعلى المفارقة السابقة يترتب تساؤل منطقي ، مفاده كيف يتقدم اقتصاد مواز ويتخلف اقتصاد الدولة وهما يعملان في بيئة مشتركة هي المجتمع المصري .

والإجابة على ذلك التساؤل تحمل مفارقة أخرى ، إذ أن الاقتصاد الموازي يحصل على الميزات فقط من اقتصاد الدولة ، ويتركه يئن تحت وطأة علله وأوجاعه ، فهو ينتزع منه الغنم ولا يشاركه في الغرم ، أي أن اقتصاد الدولة يفقد المزايا واقتصاد الجيش يحصدها .

كما أن اقتصاد الجيش المزدهر والمتقدم الموازي لاقتصاد الدولة ، يوجه تقدمه وازدهاره إلى فئة محددة ذاتاَ وصفاتاً، ولا علاقة له بالمجتمع الذي يتحمل عبء خدمته وتلبية احتياجاته ومطالبه اقتصاد الدولة المعتل والمتعثر ، فاقتصاد الدولة المصرية اقتصاد منهك ومهترئ ، ولا يحتمل مزاحمة اقتصاد موازيقتات على المتبقي من أعضائه .

ووفق التحليل الاقتصادي المنهجي يعتبر اقتصاد الجيش في مصر هو جزء مسلوب من اقتصاد الدولة المصرية ، بل لعله جزء مهم من الاقتصاد الأب، وهذا الجزء لا يعلم عنه أحد من الشعب كائن من كان شيئاً، كما أنه مخصص لمصلحة جهة محددة ، ومن شأن ذلك أن يضعف اقتصاد الدولة ويراكم من اختلالاته .

إن اقتصاد الجيش كاقتصاد مواز لاقتصاد الدولة قد يجد بعض مايبرر وجوده في كونه يؤدي إلى التقليل من الميزانية المخصصة للجيش في الموازنة العامة للدولة ، ما ينتهي بشكل تدرجي إلى اختفائها من بند النفقات والمصروفات ، وعندئذ يعتمد الجيش على اقتصاده في تمويل نفقاته ومتطلباته ، إلا أن شيئاً من ذلك لم يحدث ولا يُتوقع أن يحدث في ظل الظروف والتطورات الراهنة ، حيث يقاتل الجيش من أجل زيادة حصته في الموازنة العامة أو على الأقل تثبيتها .

كذلك قد يجد اقتصاد الجيش كاقتصاد مواز لاقتصاد الدولة بعضاً آخر مما يبرر وجوده ، في كونه يتقاسم مع اقتصاد الدولة التبعات الاجتماعية ، ولكن اقتصاد الجيش لا تستفيد منه إلا جهة بعينها وليس له أية مردودات اجتماعية .

إن اقتصاد الجيش كاقتصاد مواز لاقتصاد الدولة المصرية يقتل روح المبادرة والإبداع لدى المنشآت والشركات والمشاريع التابعة لاقتصاد الدولةبقطاعاته الثلاثة الحكومي والعام والخاص التي لها نظير في اقتصاد الجيش ، إذ تتحصل شركات الجيش على أعمال وخدمات الدولة باستخدام نفوذ وسلطات قادة الجيش ، وتترك منشآت وشركات ومشاريع اقتصاد الدولة نهباً للتعثر والفساد ، ما أدى إلى توقف وإفلاس العديد منها ، بل إن ثمة شركات تم تعويقها قصداً حتى لا تنافس شركات مناظرة لها في الجيش .

إن دخول الجيش إلى الحياة المدنية كفاعل اقتصادي يخلق حالة من الإزدواجية بين فاعلين : الأول هو الدولة بشكلها الرسمي المشروع ، والثاني هو الجيش بشكل غامض ومبهم يفتقد الرسمية والمشروعية ، إذ كيف يمكن تصنيف هذا الفاعل ، وماهي أهليته وولايته فيما يقوم به من تفاعلات اقتصادية ليست معتادة في دول العالم ، ولا يسندها نص دستوري ، ناهيك عن أن تلك النشاطات الاقتصادية للجيش قد تخرج به تماماً عن دوره ومهمته وهدفه المحدد بدقة في دستور البلاد والتي تتوافق مع الشرع والطبع وهي الدفاع عن تراب الوطن وحمايته من أي تعد أو اعتداء .

قد يعجبك أيضاً

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.